مثقفٌ خائف ومثقفٌ خانع...!

منذ 6 أشهر 100

تحت صقيع يوم الـ22 من ديسمبر (كانون الأول) سنة 1849، تمّ اقتياد الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي وعدد من رفاقه إلى ساحة الإعدام، كان عمره وقتها 28 عاماً، نجا الأديب الشاب في اللحظة الأخيرة، لكنه أُرسل إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا.

اختار القيصر مدينة أومسك في سيبيريا مكاناً ينفي إليه الروائي دوستويفسكي الذي بدأت أعماله تكتسب شهرة، خصوصاً روايته الأولى «الفقراء»، وعاش هناك سجيناً لمدة خمس سنوات، تحت الأعمال الشاقة، وطالما تعرض للإذلال والتنكيل، لكن ذلك لم يفت في عزيمته، ولم يطفأ وهج الموهبة في روحه، ولأنهم منعوه من الكتابة، فقد ظلّ عقله متوقداً وشعوره الإنساني مرهفاً، وهناك على جمر العذاب أنضج مشاريعه الروائية الخالدة التي أبصرت النور تباعاً بعد خروجه من السجن، أولها روايته «مذكرات من البيت الميت»، وصدرت عام 1861، يصوّر فيها عذابات السجون وأهوالها، وهي رواية تشبه سيرته الذاتية، يتخذ من بطل الرواية (ألكسندر بتروفيتش) لساناً يعبر عن حاله في هذا المعتقل الرهيب.

أثر هذه الرواية كان كبيراً، ويُنسب لها الفضل في تغيير نظام السجون في روسيا الإمبراطورية، ويقولون إن القيصر عندما قرأها كانت دموعه تنهمر من عينيه من شدّة تأثره بفظاعات معسكرات الاعتقال في سيبيريا وما يلاقيه السجناء هناك... وتحت تأثير تلك الحقبة الموجعة جاءت أعماله التي أبحرت في النفس الإنسانية وغاصت في أعماقها، أشهرها «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف» وغيرهما، كتب إلى أخيه ميخائيل رسالة يقول فيها: «لقد عرفتُ روسيا في السجن، خاصةً الشعب الروسي، وأزعم أنني أعرفهما الآن أكثر من أي شخص آخر».

في كتابها «بيغ ماجيك»، تقول الكاتبة الأميركية إليزابيث جيلبيرت: «الخوف ساحة قاحلة تجف فيها أحلامنا في لهيب الشمس الحارقة»، هذا تصوير غير دقيق، تماماً، مثل الفرضيات التي تقول إنّ الإبداع لا ينمو وسط الرهبة والخوف... معاناة دوستويفسكي، مثالاً، كل أعماله نضجت تحت الخوف والرهبة والقمع والاستعباد. الخوف لا يطفئ شعلة الإبداع ما دامت الروح تنبض بالأمل والتحدي، ربما ساهم في إيقادها.

كان العرب يقولون: «كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب، وامرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب»، خوف النابغة سقاه العبقرية الشعرية: «حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً/ وليس وراء الله للمرء مذهبُ»، مثله كعب بن زهير، الذي فرّ خائفاً بعد أن توعده الرسول (ص) فعاد معتذراً بقصيدته «بانت سعاد» يصفُ فيها هول الخوف على نفسه قائلاً: «لقد أقوم مقاماً لو يقوم به/ أرى وأسمع ما لو يسمع الفيلُ/ لظلّ يرعد إلاّ أن يكون له/ من الرسول بإذن الله تنويلُ»، فهو يحسب أنه حتى الفيل لا يتحمل حجم الفزع الذي وقع عليه.

ومثل كعب عشرات المبدعين، الذين أبدعوا تحت ظلال الخوف، والجوع، والمعاناة، قهروا ضعفهم، وحوّلوا محنتهم إلى فرصة للإبداع، مثلما فعل الأمير الشاعر أبو فراس الحمداني عندما أسره الروم وسجنوه في حصن «خرشنة»، فكانت قصائده «الروميات» من أشهر ما كُتب في الشعر العربي: «صبورٌ ولو لم يبق مني بقيةٌ/ قئولٌ ولو أن السيوف جوابُ/ وقورٌ وأحداث الزمان تنوشني/ وللموت حولي جيئةٌ وذهابُ/ بمن يثق الإنسان فيما ينوبهُ/ ومن أين للحرِّ الكريم صحابُ؟»، ظروف الأسر والمرض والجروح والغربة وجحود بني العمومة لم تخرس صوت الشاعر، ولم تُقيّد إرادة المبدع، عكسه ما يشير إليه شاعر الجزائر مفدي زكريا: «ليس في الأرض بقعة لذليلٍ لعنته السما، فعاش طريداً/ يا سماء، اصعَقي الجبانَ، ويا أرضُ ابلعي، القانع، الخنوعَ، البليدا!».