2024: البندول يتأرجح باتجاه جديد

منذ 20 ساعة 26

مع اقتراب غروب شمس عام 2024، يبدو أمر واحد مؤكداً بمختلف أرجاء العالم؛ أن بندول التاريخ يتأرجح بعيداً عن الاتجاه الذي سلكه منذ تسعينات القرن الماضي. على امتداد نحو 3 عقود، تأرجح البندول باتجاه ما قد نطلق عليه اليسار الناعم، في أحدث تجلياته؛ في العولمة، والصوابية السياسية، والتعددية الثقافية، وكلها أشكال من الجماعية.

والمقصود بالجماعية الآيديولوجيات التي تنظر إلى البشرية من منظور الجماعات أو المجموعات، وليس الأفراد. وتنظر كذلك إلى الدول القومية، باعتبارها بيادق بأيدي النخب العالمية، التي تعمل على إطالة أمد وجودها، عبر التحرُّك على رقعة الشطرنج الخيالية الخاصة بها.

وجاءت الضربة الأولى من نصيب منظمة الأمم المتحدة، التي كان من المفترَض، حسبما يوحي اسمها، بأن تكون تجمُّعاً غير حزبي للدول القومية ذات السيادة، بحيث تعمل معاً في إطار مقبول من القواعد والتقاليد، في خدمة السلام والتعاون الدوليين. ومع ذلك، تحولت الأمم المتحدة، عبر السنوات القليلة الماضية، إلى ما يشبه نادياً حزبياً لآيديولوجيي اليسار الناعم.

وفي تلك السنوات، غزا أحد أعضائها، روسيا، بلدين بينما حاولت دولة عضو أخرى، الولايات المتحدة، دعم نظام إسلامي محتضر، على أمل إعادته للحياة، لكن من دون جدوى. في الوقت ذاته، تصرفت دولة عضو ثالثة تملك حق النقض (الفيتو)، الصين، على نحو جعلها أشبه ببلطجي، يلوِّح بسكين ويهدد الجميع من مضيق ملقا إلى بحر الصين الجنوبي. وهوت الأمور إلى الحضيض، عندما قدم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، نفسه كمدافع عن جماعة «حماس»، باسم «حقوق الفلسطينيين».

وتعرضت مؤسسة رئيسة أخرى من مؤسسات العولمة، الاتحاد الأوروبي، لفضائح الفساد والخداع السياسي والبيروقراطية، بينما يتحرك أعضاؤها في اتجاهات متعاكسة، حتى فيما يتعلق بقضايا رئيسية، مثل دعم أوكرانيا.

وفي أماكن أخرى، توقفت منظمة الدول الأميركية عن الوجود، على نحو ذي معنى، في الوقت الذي أصاب الشلل نسختها الأفريقية، الاتحاد الأفريقي، ولم تعد قادرة حتى على التوسُّط بين أعضائها. وعلى نطاق أصغر، انقسمت منظمة التعاون من أجل التنمية في غرب أفريقيا، عندما غادرها 3 أعضاء بعد انقلابات عسكرية.

في الوقت ذاته، استمرت العديد من المنظمات شبه الجماعية الأخرى، التي لم تكن يوماً سوى أشباح مكلّفة، في التلاشي، ومن بينها الحلف الاقتصادي لجنوب شرقي آسيا، ومجموعة شنغهاي، و«بريكس بلس»، ومجموعة أوراسيا بقيادة روسيا، والعديد من المنظمات الإسلامية التي تنفق الأموال وتهدر الوقت، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وجامعة الدول العربية.

كل هذا ناهيك مما يُسمى «محور المقاومة»، الذي أنشأته إيران بتكلفة باهظة، بهدف «تصدير الثورة» إلى شتى جَنَبات العالم.

اليوم، يتأرجح البندول نحو النموذج القديم للدولة القومية، الذي ظهر للوجود للمرة الأولى في القرن الـ17، ثم تطور ليصبح المفهوم القياسي لتنظيم المجتمعات البشرية داخل حدود جيوسياسية، فرضتها العمليات التاريخية.

المثير أنه قبل بضع سنوات قليلة فقط، كان ذكر كلمة «حدود» بمثابة تدنيس للمقدسات. وكان وصف «بلا حدود» رائجاً: «أطباء بلا حدود»، و«مراسلون بلا حدود»، و«محامون بلا حدود»، بل وحتى «حرس حدود بلا حدود»، وذلك في أوروبا.

عام 2024، أعيد تثبيت العديد من الحدود التي كانت قد اختفت حتى بين الدول القومية الأوروبية.

اللافت أنه في إطار الانتخابات العامة التي أُجريت في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبولندا والنمسا، والانتخابات الرئاسية الأميركية، كانت الكلمة الرئيسة: الحدود. عام 2024، أنجزت تركيا بناء جدار بطول 320 كيلومتراً، لإغلاق حدودها مع إيران، التي كشفت بدورها عن خطة لبناء جدار بطول 925 كيلومتراً على امتداد حدودها مع باكستان.

أما مفاجأة العام الكبرى خلال ذلك العام، فكانت دونالد ترمب، الذي اقتنص، على عكس كل توقعات المشاهير العالميين، فوزاً نادراً يتيح له ليس؛ فقط العودة إلى البيت الأبيض بأغلبية الأصوات والمجمع الانتخابي، بل وكذلك السيطرة على مجلسَي الكونغرس، بالإضافة إلى إدارات أغلبية الولايات.

في المقابل، كان الخاسر الأكبر هذا العام إيران، التي استثمرت 30 عاماً في «محور المقاومة» الخيالي، ويدفن تحت الأنقاض السورية.

أما العائد إلى الحياة هذا العام، فهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي بدا قبل الهجوم الذي شنته «حماس»، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، في طريقه نحو غياهب النسيان. إلا أنه، في غضون بضعة أشهر فقط، اكتشف العالم نتنياهو جديداً يقدم نفسه كرجل دولة دولي. ووصل الأمر أن عقد المؤرخ أندرو روبرتس مقارنة بينه وبين السير ونستون تشرشل، الذي جرى وصمه بالفشل الذريع عام 1939، ليشيد به الجميع باعتباره بطلاً، بعد عام واحد فقط.

وفيما يتعلق بلقب «مقامر العام»، فهو من نصيب رجب طيب إردوغان في تركيا، الذي ورَّط بلاده في مصير سوريا المحفوف بالمخاطر، وهي المقامرة التي قد تدر عليه مكاسب كبيرة، لكنها قد تنتهي كذلك بنفس كأس السم، التي اضطر النظام الإيراني إلى أن يتجرعها.

وفيما يخص أكثر الشخصيات جبناً خلال العام، فهو الطاغية السوري بشار الأسد، الذي أخذ عائلته وأمواله وهرب، من دون أن يخبر أفراد حاشيته، ناهيك من حلفائه الإيرانيين، حتى يتمكنوا هم كذلك من الفرار للاختباء، تاركاً إياهم عُرضة للإذلال والانتقام والقتل.

أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فظل الشخصية الرومانسية للعام، بعد أن قطع أميالاً جوية بالطيران في جميع أنحاء العالم، لطلب المساعدة من مسؤولين بيروقراطيين تقنيين يتنكرون في صورة قيادات سياسية، وانتهى الأمر إلى مجرد فرص لالتقاط صور معهم.

وربما يتقاسم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني المنتهية ولايته، أولاف شولتس، لقب «شكَّاك العام»، فقد وصل كلاهما بهذا المرض إلى مستوى جديد تماماً، عاونهما على التشبُّث بالسلطة لفترة أطول قليلاً.

وقد تتقاسم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، صاحب الأصول الإيطالية، لقب «براغماتي العام»، بفضل حرصهما على تخفيف حدة ميولهما الآيديولوجية، وممارستهما السياسة، باعتبارها فنّ الممكن.

من جهته، ربما يستحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لقب «أكثر شخصية تصعب هزيمتها لهذا العام». من ناحية، نجد أن حربه في أوكرانيا لا تسير على النحو الذي كان يأمله، ولا تزال النتيجة النهائية لتورُّطه غير المدروس في المأزق السوري يكتنفها الغموض. كما أن طلبه المساعدة من الديكتاتور الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، كان مهيناً بكل المقاييس. كما أن اعتماده المتزايد على الصين، بقيادة شي جينبينغ، يثير القلق داخل موسكو.

والآن، وصلنا إلى لقب «كوميديان العام»، الذي لا بد أن يذهب إلى الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، الذي أعلن الأحكام العرفية، وأرسل الجيش لإغلاق البرلمان، لكنه سرعان ما غيَّر نبرته قائلاً: «آسف، لم أقصد ذلك».

في المجمل، يمكننا القول إنه لم يكن هذا العام سيئاً، وإذا استمر البندول في التحرك بالاتجاه الحالي، فإن الأفضل ربما في الطريق إلينا.