في أحد النقاشات المغلقة في مجال الطاقة، أشار أحد المسؤولين الأوروبيين إلى أنه لم يعد يصدق ما يقرأ، فالأخبار وحتى المعلومات والتحليلات مشوّشة ويبدو أنها تخدم في الغالب أغراضاً معينة وليس الحقيقة... ومن الواضح أن المشاركين في الجلسة، وهم خبراء ومسؤولون كبار، وافقوا على هذا الرأي.
ذكّرتني وجهة النظر هذه بكتاب صدر في منتصف الخمسينات عنوانه «كيف تكذب باستخدام الإحصاءات؟ (How to lie with Statistics)»، كما ذكّرتني باعتقاد كثير من الخبراء، بأن العالم الآن يعيش في عصر من عدم الوضوح. لا شك أن العالم يواجه اليوم أزمةً كبيرةً في المعلومات ومدى مصداقيتها، وعزز هذه الأزمة انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وسعي الناس للحصول على معلومات سريعة ومختصرة وأحياناً من مصدر واحد.
التضليل الإعلامي ليس مقتصراً على الصراعات والأزمات السياسية، فهو حاضر أيضاً في الجانب الاقتصادي، حيث الكثير من المعلومات غير الواضحة، وأحياناً المضللة، مع اختلافات في التقديرات والتوقعات في جوانب مثل النمو الاقتصادي، ومؤشرات التضخم، وأسعار الفائدة، والصراعات الاقتصادية والتجارية بين الدول، خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين.
ويعدّ الموضوع أكثر تعقيداً في مجال الطاقة بشكل عام والنفط على وجه الخصوص. قبل نحو 50 عاماً، بدأت بعض المنظمات والجهات إعداد تقارير عن أوضاع السوق النفطية من حيث العرض والطلب، وازداد الوضع زخماً بظهور السوق المستقبلية في عام 1983، ثم تخلي «أوبك» عن نظام السعر الثابت في منتصف الثمانينات، ودخول المضاربين والمستثمرين والبنوك لاعبين رئيسيين في السوق المستقبلية في نيويورك ولندن، وأصبحوا يؤثرون في اتجاه الأسعار ارتفاعاً أو انخفاضاً، ويتأثرون في الوقت نفسه بالمعلومات والتوقعات التي يتم نشرها، أو تداولها سراً.
هناك ثلاثة جوانب رئيسية في حساب أساسيات السوق البترولية وهي: الطلب، والعرض، ومستوى المخزون. يتم حساب الطلب على أساس نماذج رياضية تبدأ من توقعات نمو الاقتصاد العالمي، خصوصاً في الدول الرئيسية المستهلكة للنفط، وليس لكل جهة نموذجها الخاص، بل إن بعض الجهات تتبع توقعات هذه الجهة أو تلك... وقد تعدّها توقعها هي، فالجهات المختلفة تؤثر وتتأثر ببعضها بعضاً. ويوجد اختلاف بين التوقعات على المدى القصير والمدى الطويل، حيث إن الثاني أكثر تعقيداً وضبابية.
الجانب الثاني هو العرض، ويعدّ مختلفاً، حيث يتم قياس إنتاج مختلف الدول - على اختلاف طاقاتها الإنتاجية المتباينة بشكل كبير- بطرق عدة، ومن أهمها تقارير الحكومات والشركات في الدول المنتجة، وكذلك تقارير بعض الجهات المستقلة... وهي تقارير تتسم بقدر عالٍ من الغموض والاختلافات المقصودة وغير المقصودة.
وعند اختلاف تقديرات العرض مع تقديرات الطلب فإن الفارق يحسب على أساس حركة المخزون التجاري، الذي كان يسمى جزء منه ولفترة طويلة بـ«البراميل المفقودة»، وهذه تسمية غير دقيقة. فهو في الأساس خطأ معرفي، لكن لا أحد يريد الإقرار به على الرغم من أنه أمر طبيعي أن يحدث مثل هذا الخطأ.
إذا عرفنا أن الإنتاج والاستهلاك يصلان الآن إلى مائة مليون برميل يومياً... وأن هذه البراميل المنتجة تمر بعديد من المراحل بدءاً من الحقول، ومروراً بالنقل ومحطات فصل الغاز والشحن، ومن ثم إلى مخازن المصافي ثم التكرير، ثم نقل المنتجات وتوزيعها، لتنتهي في السيارة أو الطائرة... وهنا بالطبع تكمن الأخطاء، ويفترض التعامل معها بوصفها أخطاء طبيعية نعترف بها ونقولها بصراحة تامة... ففي علم الإحصاء يعدّ خطأ يصل إلى 3 في المائة مقبولاً، ولكنه في النفط يبدو كبيراً، يكفي الإشارة إلى أن 3 في المائة تساوي 3 ملايين برميل يومياً حسب معدلات الإنتاج والاستهلاك الحالية، وهذا يقارب إنتاج دول رئيسية في «أوبك» مثل الإمارات، واستهلاك دول صناعية مهمة مثل بريطانيا وفرنسا مجتمعتَين.
المشكلة الكبرى ليست فقط في العرض والطلب على المدى القصير، بل في وضع السوق المستقبلي، خصوصاً في ضوء التحولات المتوقعة في استخدام الطاقة بأنواعها المختلفة. بعض الجهات تحولت توقعاتها من تلك المبنية على نماذج رياضية/ اقتصادية، إلى توقعات مبنية على سياسات الطاقة المحتمل اتخاذها من الدول الرئيسية المستهلكة. ومن الأمثلة على ذلك أن وكالة الطاقة الدولية، التي تعدّ مرجعية رئيسية في السوق العالمية للطاقة، عدّلت من توقعاتها على المدى البعيد بطلب من الحكومة البريطانية التي دعمت مالياً هذه الدراسة (خلال رئاسة بوريس جونسون) وتقديم تقرير في «مؤتمر الأطراف» في غلاسكو في عام 2021 يثبت إمكانية وصول العالم إلى الحياد الصفري (وصول انبعاثات الكربون إلى صفر) بحلول عام 2050.
ومن هنا بدأت الوكالة في تغيير أرقامها على المدى الطويل، وتغيير نموذجها الذي يتم على أساسه التنبؤ بواقع الطلب العالمي على البترول والطاقة... وتخلت عن النموذج الرياضي/ الاقتصادي، وتحوّلت إلى نموذج افتراضي، مبني على السياسات التي من المتوقع أن تطبقها الدول الرئيسية المستهلكة للطاقة من حيث زيادة استخدام الطاقة المتجددة، والتقليص التدريجي في استخدام الوقود الأحفوري (الفحم، والنفط، والغاز)... وتوقّعت وصول الطلب على النفط إلى ذروته في عام 2030، بنحو 110 ملايين برميل يومياً لينحدر إلى 40 مليون برميل يومياً أو أقل بحلول عام 2050.
يختلف هذا التوقع السلبي مع توقعات مؤسسات وهيئات دولية أخرى مثل «أوبك»، ووكالة معلومات الطاقة الأميركية، كما هاجم بعض أعضاء الكونغرس الأميركي تنبؤات الوكالة بشكل غير مسبوق؛ بسبب أنها قد تؤدي إلى أضرار على سوق الطاقة والاقتصاد العالمي.
وهناك كثير من الإشكالات مع مثل هذه التوقعات:
أولاً: تتغير سياسات استخدام الطاقة باستمرار حسب توجهات الفكر السياسي وتقديرات المصالح الاقتصادية والمطالب الشعبية، فمثلاً يقف الحزب الجمهوري الأميركي ضد سياسات الحزب الديمقراطي من حيث تقليص استخدام الوقود الأحفوري وزيادة استخدام الطاقة المتجددة.
ثانياً: مثل هذه التوقعات قد تؤثر سلباً في الاستثمار في هذه المادة المهمة للعالم، مما قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية قد يواجهها العالم في حال تخفيض الطاقات الإنتاجية والتكريرية وغيرها.
ثالثاً: تعمل بعض الدول - مثل المملكة العربية السعودية - على تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من خلال إعادة حقنه في حقول البترول أو زراعة المزيد والمزيد من الأشجار التي تمتص ثاني أكسيد الكربون. وتلك التنبؤات السلبية عن المستقبل ستؤثر سلباً في انتشار هذه المشاريع الطموحة عالمياً.
لقد بات العالم الآن بحاجة إلى تنبؤات واقعية وعلمية فيما يخص الطاقة ومصادرها المختلفة. وبعيداً عن المصالح السياسية والتوجهات الآيديولوجية، على مراكز الأبحاث المختصة بالطاقة، وكذلك منتدى الطاقة الدولية، والدول الرئيسية المنتجة والمستهلكة للطاقة، العمل متكاتفةً من أجل إعادة الثقة إلى المعلومات والتنبؤات، في سوق وصناعة مهمة للاقتصاد العالمي وللبشرية مثل البترول والطاقة.