يمكن إيعاز المشكلات التي يعاني منها قطاع الشركات في بريطانيا إلى السياسات والمشكلات التي سبقت حكم «المحافظين». إلا أن إدارات حزب «المحافظين» المتعاقبة كانت بطيئة في تحركاتها لوقف هذا التردي.
كان من المفترض لسوق الأوراق المالية في المملكة المتحدة أن تكون منارة للازدهار. إلا أنه بدلاً عن ذلك، جابهت صعوبة لتعزيز الشركات ذات النمو المرتفع والاحتفاظ بها. حتى الارتفاع الأخير في الأسهم المدرجة في لندن لا يغير الصورة الكبيرة كثيراً. كان إجمالي العائد لمؤشر «FTSE 100» الممتاز أقل بكثير عن أداء أقرانه الرئيسيين على امتداد السنوات الـ14 الماضية. أما فيما يخص مؤشر «FTSE 250» الذي يضم كثيراً من الشركات التي يتركز اهتمامها على المملكة المتحدة، فإن سعره مقارنة بالأرباح الإجمالية تزحزح بالكاد. كان تصنيف «Russel 2000» للأسهم الأميركية الأصغر حجماً أعلى بالفعل في عام 2010، وازداد تقدماً.
بدأت فترة حكم «المحافظين» وسط جدل ساخن حول الاستحواذ الأميركي المثير للجدل على شركة «كادبوري» لصناعة الحلويات. إلا أنه خلال الجزء الأكبر من الفترة اللاحقة، تصدت الحكومة للانتقادات الموجهة لعمليات الاستحواذ الأجنبية؛ بحجة أنها تعد بمثابة تصويت بالثقة في بريطانيا. واستمر الاستنزاف، وبعد أشهر من استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 الذي أدى إلى تراجع الجنيه الإسترليني، استحوذت شركة «SoftBank Group Corp» اليابانية على شركة تصميم الرقائق الدقيقة «Arm Holdings Plc». والواضح أن شركات الاستحواذ الأميركية استفادت من الأسهم الرخيصة متوسطة الحجم داخل المملكة المتحدة.
من جوانب عدة، تعد هذه السوق «المفتوحة» أمراً جيداً. إن التهديد المستمر بالاستحواذ يعد حافزاً أساسياً لأداء الشركات. وقد يتمكن المشترون الأجانب الذين يتمتعون بموارد جيدة من إعادة تنشيط الشركات التي انجرفت عن المسار الصحيح. ومع ذلك، تبقى هناك جوانب سلبية عندما تقر الصفقات، منها أن سلطة اتخاذ القرارات الكبرى تنتقل إلى الخارج، ويتضاءل دور المكتب الرئيسي الحالي، ما يؤثر على أي شركة بريطانية تخدمه. من الصعب أن نندد بالمالكين الأجانب وندفعهم للشعور بالخجل عندما تسوء الأمور - مشكلة تتجلّى عندما تعمل الشركة المستحوذة بمجال توفير الخدمات الأساسية.
لن يكون لهذا الأمر أهمية كبيرة إذا كانت سوق الأوراق المالية تجذب عدداً كبيراً من القوائم عالية الجودة لتحل محل الشركات التي جرى شراؤها. ومع ذلك، فإن العكس هو ما يحدث الآن. في الوقت ذاته، حولت الشركات المتداولة علناً إدراجها إلى نيويورك، بدلاً من لندن، سعياً للحصول على تقييمات أعلى. وعادت شركة «Arm» إلى سوق الأوراق المالية العام الماضي ـ لكن في الولايات المتحدة. ومع كل رحيل، يتضاءل متوسط جودة الشركات المدرجة المتبقية في غياب طرح أسهم بديل. وبذلك تزداد صعوبة جذب الشركات الرابحة في المستقبل، والمستثمرين المشاركين بها.
ويمكن القول إن العامل الرئيسي في كل هذا يكمن في التنظيم الذي صدر أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي طبق نظام المحاسبة الجديد على تقييمات خطط التقاعد، ما حفّز صناديق التقاعد نحو التحول إلى السندات بدلاً عن الأسهم، ودفع الشركات البريطانية لتحويل الأموال النقدية من الاستثمار إلى زيادة معاشات التقاعد. علاوة على ذلك، كانت لندن منذ فترة طويلة معقلاً لما يسمى مستثمري الدخل، الذين يفضلون الشركات التي تدفع أرباحاً على تلك التي تنفق الأموال النقدية على الاستثمار من أجل التوسع. والنتيجة النهائية أن سوق الأوراق المالية لم تعد تحظى بقاعدة قوية وداعمة من المستثمرين المحليين، والتي تخسر الشركات التي تحقق نمواً أمام البورصات أو العطاءات المنافسة.
ورغم جودة المراجعات الحكومية الكثيرة لمناخ الاستثمار التي جرت منذ عام 2010، لم تخلف هذه المراجعات سوى تأثير ملموس ضئيل. الواضح أن الوزراء أخطأوا حين سمحوا للبيئة بأن تتدهور.
في الفترة الأخيرة فقط، فكرت وزارة الخزانة في إيجاد حلول مناسبة، مثل تحفيز توحيد قطاع معاشات التقاعد المجزأ في المملكة المتحدة، وتحويله إلى صناديق أكبر يمكن أن يدعم حجمها زيادة الاستثمار في الأصول الأكثر خطورة، مثل الأسهم. وتتجلّى المفارقة في أن هذه الفكرة جرى الترويج لها من قبل المعهد التابع لرئيس الوزراء السابق توني بليرـ ما يعد بمثابة اعتراف ضمني بأخطاء سياسة حزب «العمال» السابقة والحاجة إلى معالجتها.
الحقيقة أن ثمة حاجة إلى تفكير إبداعي. من جهته، دعا مركز الأبحاث «Turning the Page»، ومقره لندن، إلى بيع حصة الدولة في «NatWest Group Plc»، وإعادة استثمار العائدات في صندوق ثروة سيادي يضم أسهماً بريطانية صغيرة ومتوسطة الحجم. ويقترح كذلك جعل بعض الإعفاءات الضريبية على المعاشات التقاعدية مشروطة بالتخصيص الجزئي لأصول الصندوق في المملكة المتحدة، ما يحد بشكل فعّال من توجيه إعانات دافعي الضرائب لشراء الأسهم الخارجية. في الحقيقة، يبدو مقترحاً منطقياً.
ومع هذا، فإن الحاجة الأعظم الآن تتلخص في إعادة تحفيز الاستثمارات الطويلة الأجل في المملكة المتحدة. وتجري مشاورات بالفعل بشأن الإعفاءات الضريبية لادخار التجزئة عبر الأسهم البريطانية. ومن الممكن أن يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك عبر فرض مساهمات أكبر بكثير في معاشات التقاعد من جانب أصحاب العمل، مع استثمار جزء منها بشكل إلزامي في الداخل.
والمؤكد أن مثل هذه السياسة من شأنها أن تضيف عبئاً على قطاع الشركات في الأمد القريب. في الوقت ذاته، يرفض مديرو صناديق التقاعد أي اقتراح بإقرار أي قيود على مخصصات الاستثمار. الحقيقة أنه لا توجد حلول مجانية هنا.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»