♦ الملخص:
شاب أسرف على نفسه، واقترفت يداه بعض الكبائر، ثم تاب وأناب، لكن الشيطان يشككه في قبول توبته، ويكاد التفكير يقتله، ويسأل: ما النصيحة؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم.
أنا في منتصف العشرينيات، اقترفت أربعًا أو خمسًا من الكبائر، والآن رجعت إلى نفسي، وأدركت أنني مخطئ، فتُبتُ إلى الله، وعُدت إلى الصلاة وقراءة القرآن والأذكار، المشكلة أنه راودني تفكير سيئ نحو توبتي؛ فقد يسألني الله يوم القيامة ويقول لي: لولا الكبائر التي اقترفتها، ما تُبتَ إليَّ، ولا رجعت إليَّ؛ هذا التفكير يقتلني، وأرجو مساعدتكم، وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فاحمَدِ الله كثيرًا على ما منَّ به عليك من التوبة، وأبْشِرْ بالخير الكثير بمشيئة الله سبحانه، ثم أقول مستعينًا بالله سبحانه:
أولًا: على المؤمن أن يراقب الله سبحانه في خَلْوَتِهِ وعلانيته؛ مستحضرًا قوله سبحانه: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقوله عز وجل: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
ثانيًا: وإن حصل وقوعه في معصية ما، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، وشروط التوبة المقبولة هي: الندم، والعزم، والإقلاع.
ثالثًا: مما يعين بمشيئة الله على مراقبة الله، وترك المعاصي معرفةُ أسماء الله الحسنى، الدالة على عظمته سبحانه، وسَعَةِ اطلاعه، ومراقبته لعباده؛ مثل قوله عز وجل: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
رابعًا: ومما يعين على التوبة تذكُّرُ سعة رحمة الله سبحانه، وقَبوله توبةَ التائبين، مهما تكررت ذنوبهم؛ ومما يدل لذلك الأدلة الآتية:
قوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 53، 54].
وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 - 71].
ومما ورد في تفسيرها أن الله يبدل السيئات العظيمة لهؤلاء - وهي الشرك والزنا وقتل النفس - يبدلها إلى حسنات؛ بسبب صدق توبتهم.
خامسًا: وإليك الأحاديث النبوية الآتية التي تدفع المذنب دفعًا للتوبة، وتؤزُّه أزًّا إليها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي؛ فليفعل ما شاء))؛ [متفق عليه].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تُذْنِبوا لَذَهَبَ الله بكم، وجاء بقوم يُذْنِبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم))؛ [رواه مسلم].
وعن أبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لولا أنكم تُذْنِبون لَخَلَقَ الله خلقًا يُذْنِبون، فيستغفرون، فيغفر لهم))؛ [رواه مسلم].
سادسًا: ذكرتَ ما يشير إلى خوفك الشديد من عدم قبول توبتك؛ بسبب الكبائر التي وقعت فيها، ثم تبت منها؛ ولذا أقول لك: إن أصغَيتَ إلى هذه الوساوس، فلن تَسَعَك الأرض بما رحُبت، وهي من الشيطان ليُثْنِيَك عن توبتك؛ فاطرحها جانبًا، فهي من الوسواس الخناس، وسقاها الخوف غير المحمود، فأثْمَرَ ذلك شجرةً مُرَّةً من التوتر.
سابعًا: بدل الاستسلام للخوف والقلق، أشغل نفسك بما يقوي إيمانك، ويزيد حسناتك، ويكفِّر من سيئاتك، ويرفع درجاتك عند ربك سبحانه؛ ومن ذلك:
١- المحافظة على الصلوات في أوقاتها بالمساجد، ومنها صلاة الفجر.
٢- الدعاء.
٣- المحافظة على أذكار الصباح والمساء.
٤- الإكثار من الاستغفار.
٥- الصدقة.
ثامنًا: وأوصيك أن تبتعد نهائيًّا عن كل ما قد يسبب الوقوع في المعصية من مواقع إباحية وغيرها؛ لأن الله سبحانه حرَّم كل وسيلة قد تؤدي للفاحشة، ومنها إطلاق النظر والخلوة بالنساء؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32].
يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته، وهو مخالطة أسبابه ودواعيه: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ [الإسراء: 32]؛ أي: ذنبًا عظيمًا، ﴿ وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]؛ أي: وبئس طريقًا ومسلكًا.
وقال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
تاسعًا: والخلاصة أن تفكيرك بعدم قبول توبتك من الشيطان؛ فلا تلتفت لها أبدًا، وافرح بفضل الله عليك، واحمده كثيرًا، وحافظ على أسباب الثبات التي سبق ذكرها لك.
حفظك الله، وسترك في الدنيا والآخرة، ووفَّقك لتعظيم حُرُمات الله تعالى، ووفَّقك للتوبة النصوح.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.