من «سيد الذباب» إلى «غرفة الصدى»...!

منذ 21 ساعة 13

هل الإنسان بطبعه ميال للخير أم للشر؟ هذه هي الجدلية القديمة التي يسعى كتاب «الإنسانية: تاريخ الأمل»، الذي صدر باللغة العربية بعنوان: «الجنس البشري مستقبل مفعم بالأمل» (دار التنوير) للمؤرخ الهولندي رودغر بريغمان، لمناقشتها، مقدماً نظرة متفائلة عن الطبيعة البشرية، فهو يسعى لتفكيك الفكرة الشائعة بأن البشر أنانيون أو شريرون بطبيعتهم.

يميل الكتاب إلى رأي المفكر الفرنسي جان جاك روسو، الذي يرى أن «الإنسان خيِّر بطبيعته»، ولكن المؤسسات وحدها تجعل البشر أشراراً. وهو يُعارض الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي يُجزم بأن البشر مفطورون على الشرّ، لا يلجمهم إلا سطوة القانون.

الهولندي بريغمان في هذا الكتاب، يُجادل بأن البشر ليسوا مدفوعين بالغريزة الأنانية كما يُعتقد، بل لديهم نزعة طبيعية للتعاون والتعاطف، وأن الطبيعة البشرية تميل إلى الخير، ويستشهد بدراسات علمية وتجارب اجتماعية تُثبت أن الناس يتصرفون بشكل إيجابي عندما تُتاح لهم الفرصة. وهو يدعو لإعادة النظر في التاريخ، ويناقش كيف أن كثيراً من الأحداث التاريخية، مثل الحروب أو الكوارث، غالباً ما أبرزت الجوانب الإيجابية في البشر وليس العكس.

ولتأكيد رأيه في أصالة الخير في النفس البشرية، يستعرض رواية إنجليزية حققت شهرة واسعة، وقامت أصلاً على فكرة أن الناس إذا تُركوا وشأنهم فإنهم يتجهون نحو التوحش والعدوانية، وليس نحو التحضر والتسالم، هذه الرواية هي «سيد الذباب» (Lord of the Flies)‏ وصدرت عام 1954، للروائي البريطاني وليم غولدنغ، وأصبحت واحدة من أشهر الروايات الغربية، وهي باختصار تسرد حكاية مجموعة من الطلاب البريطانيين، سقطت طائرة كانت تقلّهم فوق جزيرة نائية في المحيط الهادئ، وحين يحاول الفتية تنظيم أنفسهم، تستيقظ في داخلهم نوازع السيطرة والتحكم والأنانية، ويصبحون متوحشين، ثم يتفرقون ضمن عصابات يُحارب بعضها بعضاً... لقد أراد مؤلف الرواية -برأي بريغمان- أن ينتصر لوجهة نظره بأن البشر بطبيعتهم أشرار وأنانيون... وهو ما يعارضه تماماً، وهو يرصد تطور الفكر الإنساني، وكيف تطورت الأفكار والمعارف لدى الإنسان عبر التاريخ، وأسهمت في تشكيل الحضارات والمجتمعات، مشيراً إلى أن مسيرة الجنس البشري على الأرض تسير نحو الإعمار والتطور والبناء والتحضر، وليس العكس.

يؤكِّد الكتاب القيم الإنسانية المشتركة، مثل العدالة والمساواة والحرية، وكيف يمكن لهذه القيم أن توجه سلوك الإنسان، وتسهم في بناء عالم أفضل. ولا يغفل الإشارة إلى دور وسائل الإعلام في تعزيز النظرة السلبية عن الناس، وأن الأخبار السلبية تُسيطر على الإعلام، ما يُعزز الصورة القاتمة عن الطبيعة البشرية، وخلق تصنيفات سلبية عن الناس، ما يسهم في تعميق الفجوة بينهم.

يستخدم كثير من الناس الوسائل الأكثر يسراً لبناء وجهات نظرهم تجاه أنفسهم والآخرين، ولكنهم من حيث لا يشعرون يقعون في فخّ التحيز الذي ينتهي للتنافر وليس للتواصل. ما لم يقله الكتاب؛ أن وسائل التواصل خلقت فجوة هائلة بين البشر، كان يُفترض أن تجعل الناس يألف بعضهم بعضاً، لكن المستخدمين الذين أدمنوا التواصل عبر المنصات الإلكترونية، وتمّت برمجة عقولهم عبر ما بات يُعرف بـ«غرفة الصدى (Echo Chambers)»؛ حيث يتفاعل مستخدمو شبكات التواصل مع أشخاص أو مصادر تؤكد قناعاتهم وأفكارهم الحالية، ما يعزلهم عن وجهات النظر المختلفة أو المعارضة. وتلعب «خوارزميات» وسائل التواصل الاجتماعي، دوراً خطيراً؛ حيث تظهر للمستخدمين محتوى يتوافق مع اهتماماتهم السابقة لتعزيز التفاعل، ما يُعزز لديهم التحيز، والتعصب للأفكار المسبقة، والرغبة في تجنب الجدل أو النقاش، وعدم القدرة على التفكير النقدي، وصولاً إلى العزلة الفكرية، وبالتالي يشترك ملايين المستخدمين لشبكات التواصل في عملية تضليل ذاتي مبرمج، تجعل الواحد يعتقد أنه يقبض العالم في يده، في حين هو يمسك حبالاً من الوهم. يقول ابن الرومي: «بعيداً على قُرْبٍ قريباً على بُعْد»...!