لا شك أن كون الإنسان كائناً عاقلاً يجعل من علاقاته البينية أكثر تعقيداً من بقية الكائنات. فإذا كانت البيولوجيا حاكمة في العلاقات البينية للحيوانات، فإنها تتشارك مع السيكولوجيا (علم النفس) في العلاقات البشرية. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن علاقة الرجل بالمرأة هي أكثر العلاقات تعقيداً، بعيداً عن الدين والسياسة.
إن صعود الخطاب النسوي في مرحلة الحداثة، وازدهاره في مرحلة ما بعد الحداثة قد شكّل جبهة نسوية عنيفة رفعت من سقف الصراع الجندري. على الجانب الآخر، تم بناء فكرة تصف من يرفض الخطاب النسوي ما بعد الحداثوي بأنه عنصري كاره للنساء؛ وقد ظلت هذه الوصمة مقبولة إعلامياً وثقافياً لردح من الزمن حتى ظهور مفهوم الحبة الحمراء (Red Pill) التي سعت لبناء وعي رافض للوعي النسوي الذي تشكّل في مرحلتي الحداثة وما بعدها.
إذا كان المنظور النسوي قد خاض في تحليل الخطاب الثقافي على مدى السنين، وأعاد تفسير القصص التاريخية من منظوره، فإن «الريدبلز» يمتلك خطاباً قادراً على فعل الشيء نفسه. ومن دون انحياز للبنية المعرفية التي تفضي إلى تفسير محدّد، نحاول في السطور التالية تسليط الضوء على فكرة يجادل بها أنصار الحبة الحمراء من خلال إعادة قراءة بيت شعري من الموروث الشعبي السعودي قِيل قبل قرابة القرن من الزمان. تلك الفكرة هي «أرملة الألفا».
يشير مصطلح «أرملة الألفا» إلى المرأة التي تجد صعوبة كبيرة في تخطّي علاقتها برجل تعدُّه عالي القيمة وشديد الجاذبية ومهيمناً عليها (ذكر ألفا). مسألة الترمّل هنا لا تعني الفقد بالموت، وإنما المغادرة القسرية للعلاقة مع ذلك الرجل الألفا الذي فارقها بحسرتها. لذلك تجد تلك المرأة صعوبة في الشعور بالاهتمام أو الرضا عن الرجال الآخرين الذين دائماً ما تقارنهم بالنموذج الذي حُفر في وِجدانها. باختصار، لقد وضَعَتْ توقعات أو معايير عالية أصبحت بسببها تكافح من أجل العثور على رجل يحقق لها مستوى الرضا نفسه الذي كانت عليه في العلاقة السابقة. وبعيداً عن مستوى مصداقية هذا التصوّر على المستويين البيولوجي والسيكولوجي، فإنه من المعلوم أن أزمة العجز عن التخطي كفيلة بحرق فُرص النجاح في العلاقات المستقبلية.
لو أردنا استخدام عدسة «الريدبلز» في قراءة بعض النصوص الثقافية، فإننا سنخرج برؤى مثيرة للاهتمام، بل إنها لا تقلّ في فرادتها عن تلك التي استُخدمت فيها القراءات الثقافية الأخرى، ومن ضمنها النسوية. ولنجرّب ذلك مع بيت الشعر الشهير:
اللي يبينا عيّت النفس تبغيه / واللي نبيه عيّا البخت لا يجيبه
يمثّل هذا البيت «الصوتيم» الرئيسي لقصيدة الشاعرة نورة الحوشان (1315 – 1350هـ) التي قالتها تحسّراً على طليقها عبود بن علي بن سويلم الشلواني العازمي الذي عاشت معه لسنوات وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل أن يحدث بينهما خلاف أدى بعبود إلى تطليقها طلاقاً بائناً. بعدها تقدّم الكثيرون لخطبتها، وكانت ترفض الزواج بعد بن سويلم، وقد قالت الكثير من شعر الحنين في ذلك الرجل، ومن ضمنه الأبيات التالية التي قالتها بعدما ألحّ أحدهم في طلب خطبتها:
قلبي يحب صويحبي مير يكوين
مكونٍ يبين الجرح به قبل دمه
أبغيه لاهو يطبخن ثم يشوين
يبرد لهيب القلب قربه ولمه
يا حلو قولت هيش ياويش تبغين
أحلى من الورع المغاغي على امه
يُروى أنها تزوجت برجل من أقارب طليقها بهدف أن تحلّ لعبود بن سويلم بعد طلاقها من الزوج الجديد، لكن الزوج الجديد لم يطلّق. وبعد مدّة مرّت الشاعرة بمزرعة بن سويلم، فغلبها الحنين، فقالت قصيدتها الشهيرة التي اشتهر منها ذلك البيت، الذي أصبح مضرب المثل في المفارقة المبنيّة على الزهد فيما في اليد والتحسّر على أمرٍ صعب المنال «اللي يبينا عيّت النفس تبغيه».
أشارت بعض الروايات إلى تحسُّر بن سويلم عليها، ولكن التراث لا يحفل بمستوى تحسُّر نورة عليه؛ وفي ذلك دلالة على تعلّق الأنثى بالذكر الألفا الذي تضعه مقياساً لكل الرجال، ويصعب عليها إحلال رجل مكانه، حتى وإن بدا ذلك البديل أفضل منه، فبصمة الألفا في وجدان الأنثى فريدة وغير خاضعة للتفسير المنطقي؛ لأنه ليس مجالاً للمقارنة المحايدة.
قد نتفق أو نختلف مع نظرة «الريدبلز»، ولكن الكثير من الأمثال الشعبية والقصص القديمة تدعم مثل هذه التفاسير. وعليه، هي دعوة للباحثين في العلوم الإنسانية ليقوموا بأبحاث ميدانية لاختبار هذه النظرة وإثباتها أو دحضها، ودعوة مماثلة لباحثي الأنثروبولوجيا للحفر في القصص التراثية وقراءتها بمنظور جديد يثري التراث ويعيد فهمنا له.