أوفى الرئيس الأميركي دونالد ترمب بوعده بفرض رسوم جمركية عالية على الشركاء التجاريين الأهم للولايات المتحدة. فوقّع أوامر تنفيذية بفرض رسوم جمركية على الواردات من كندا والمكسيك بنسبة 25 في المائة، والصين بنسبة 10 في المائة، بالإضافة إلى 10 في المائة على واردات الطاقة من كندا، في خطوة قد تشمل لاحقاً دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الرسوم الجمركية الحالية. فيما سارعت الدول الثلاث بالرد، وبدأت الحرب العالمية التجارية بين ثلاث من أكبر الدول التي تسهم في 65 في المائة من العجز التجاري للولايات المتحدة البالغ 773.4 مليار دولار في عام 2023.
وقد بلغ العجز مع الصين وحدها 279.4 مليار دولار (36 في المائة)، والمكسيك 152.4 مليار دولار (19.7 في المائة)، وكندا 67.9 مليار دولار (9 في المائة). وهذه الدول تسهم أيضاً في 40 في المائة من إجمالي الواردات الأميركية، التي بلغت قيمتها نحو 3.1 تريليون دولار العام الماضي.
وتعد كندا والمكسيك المصدرين الرئيسين لواردات الخام الأميركية، حيث تمثلان معاً نحو ربع النفط الذي تعالجه مصافي التكرير الأميركية.
وتستورد الولايات المتحدة نحو 4 ملايين برميل يومياً من النفط الكندي، 70 في المائة من ذلك يتم معالجته بواسطة مصافي التكرير في الغرب الأوسط. كما تستورد أميركا أكثر من 450 ألف برميل يومياً من النفط المكسيكي، بشكل أساسي لمصافي التكرير المتمركزة حول ساحل الخليج الأميركي.
ومع أن المكسيك لا تملك شركات وطنية لإنتاج السيارات، لكن 80 في المائة من السيارات التي يتم تجميعها في هذا البلد مخصصة للتصدير، الجزء الأكبر منها إلى الولايات المتحدة، ومن ثم كندا.
وبعد يومين فقط من قرار ترمب، جاء الرد سريعاً من كندا والمكسيك بإجراءات مضادة للرسوم الأميركية، حيث أعلن ترمب على منصّته «تروث سوشيال» تعليق فرض الرسوم الجمركية فوراً، التي كانت ستدخل حيز التنفيذ الثلاثاء الموافق 4 فبراير (شباط).
ومع تنفيذ ترمب لتهديدات التعريفات الجمركية، يبطش الدولار الأميركي بعملات كندا والمكسيك والصين. وهناك رهانات للمستثمرين، ومن بينهم صناديق التحوط، على استمرار رحلة صعود الدولار عند أعلى مستوى منذ يناير (كانون الثاني) 2019.
التأثيرات المحتملة
السؤال المطروح الآن: هل سياسة ترمب الحمائية ستجدي نفعاً لإعادة التوازن في الميزان التجاري الأميركي؟
في الواقع أن الجدوى الاقتصادية لهذه القرارات غير واضحة، لأنها لن تكفي لسد العجز التجاري الأميركي، وهو الهدف المعلن من ترمب لهذه الخطوة.
في الحقيقة هذه القرارات قد تكون مؤذية لجميع الأطراف، وهناك مخاوف كثيرة من تداعيات هذا القرار على الاقتصاد العالمي. هذه القرارات لن تخدم النمو وسوق العمل، بل ستؤدي إلى رفع معدلات التضخم، وترخي بظلالها على الاقتصاد العالمي الذي لم يتعاف بعدُ من أزمة جائحة فيروس «كورونا».
ورغم تنفس الصعداء في انحسار التضخم في الربع الأخير من العام الماضي، والدخول في مرحلة النمو المستقر، فإن الاقتصاد العالمي ما زال يواجه مخاطر كبيرة، من بينها التوترات الجيوسياسية والتجارية، وضعف أسواق العمل مما يقوض النمو الاقتصادي، والتقلبات المحتملة في انحسار التضخم، التي قد تسبب اضطرابات في الأسواق المالية.
ناهيك عن تحديات تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، الذي يمكن أن يؤدي إلى توفير الوقت وزيادة الإنتاجية في كثير من القطاعات، مما يقلل من الطلب على بعض الوظائف الروتينية التي يمكن الاستغناء عنها، وبالتالي نقص المعروض في فرص العمل.
وفي ظل ارتفاعات مرتقبة في معدلات التضخم نتيجة ارتفاعات الأسعار جراء الرسوم الجمركية، لن يكون من السهل أن يرضخ البنك الفيدرالي الأميركي لتوجهات ترمب بخفض أسعار الفائدة.
هيكل الميزان التجاري الأميركي
وبالرجوع إلى الميزان التجاري الأميركي، نجد أن هناك دولاً أخرى أكثر شراسة في وتيرة التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، وتتسبب في اختلالات كبيرة لا يمكن غض النظر عنها، حيث نجد أن النسبة بين صادرات كندا إلى الولايات المتحدة ووارداتها تبلغ 1.18 في المائة، وتبلغ 1.47 في المائة في حالة المكسيك، بينما نجد النسبة بين صادرات فيتنام إلى الولايات المتحدة ووارداتها تقدر بـ11.4 في المائة.
ووصل فائض فيتنام مع الولايات المتحدة إلى ما يقرب من 105 مليارات دولار عام 2023، وهو رقم أكبر بمرتين ونصف مما كان عليه في عام 2018. ويحتل هذا الفائض التجاري لفيتنام مع الولايات المتحدة الآن المرتبة الرابعة عالمياً، بعد الصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي فقط. وبلغت واردات الولايات المتحدة من فيتنام 114.4 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات الأميركية 9.8 مليار دولار فقط. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فائض فيتنام خلال الـ11 شهراً حتى نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2024 تفاقم إلى 113.1 مليار دولار، مقارنة بـ105 مليارات دولار في عام 2023 بالكامل.
التأثيرات المحلية والعالمية
الكل سيخسر وليس من رابح. فالتقديرات تشير إلى أن أوروبا ستخسر 1.6 في المائة من الناتج القومي، والولايات المتحدة والصين 1.4 في المائة، وكندا 2.6 في المائة والمكسيك 3 في المائة من الناتج القومي. وسيكون هناك ارتفاع في التضخم في الولايات المتحدة بنسبة 0.7 في المائة، مما سيتسبب في ارتفاع أسعار الفائدة بما يهدد النشاط الاقتصادي، وإضعاف سوق العمل على المدى الطويل.
وهذا القرار سيدفع بدول مثل المكسيك وكندا ودول الاتحاد الأوروبي إلى أحضان الصين، ما يوفر مخرجاً للصين من مأزق الرسوم الأميركية على منتجاتها، بحثاً عن أسواق بديلة عن الولايات المتحدة لتصريف منتجاتها، ما يوفر للصين في الوقت ذاته فرصة لتسويق بضائعها في هذه الدول. هذه الاضطرابات المتوقعة في التجارة العالمية ستؤثر على النمو العالمي، وستتسبب في إعادة توزيع الثروات بين دول الشمال، فيما ستتأثر دول الجنوب والدول الناشئة من هذه المتغيرات، لذا على هذه الدول أن تتخذ بدورها إجراءات لحماية اقتصاداتها. نحن إذن أمام إعادة توزيع الأوراق في الاقتصاد العالمي... حرب ترمب التجارية تهدد بخفض الناتج المحلي الصيني بين 1 و2 في المائة، وستواجه بكين تحديات إيجاد أسواق بديلة للسلع التي تصدرها إلى الولايات المتحدة، حيث بلغت قيمة السلع المصدرة عام 2023 للولايات المتحدة 430 مليار دولار، أي بنحو 13 في المائة من إجمالي صادراتها بقيمة بلغت 3.38 تريليون دولار.
* أستاذ الاقتصاد الدولي والتمويل في جامعة نيويورك