السؤال:
قال الله تعالى {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} الله حكم على جميع المهاجرين بالصدق، وهذا يعني أنهم سيبقون على الإيمان ويموتون عليه ويدخلون الجنة، ولكن قد ارتد ابن خطل، وارتد مقيس بن صبابة، فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟ والأخبار لا يدخلها نسخ كما هو معلوم.
الإجابة:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، عامة في كل من اتصف بذلك، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، والسابقون هم الذين أسلموا قبل الحديبية، كالذين بايعوه تحت الشجرة الذين أنزل الله فيهم: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18]، وقد كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وكلهم من أهل الجنة ، وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"، وقال صلى الله عليه وسلم في شأن أهل بدر: "أن الله قال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"، وفي هذا الحديث بيان أن الله يغفر لهؤلاء السابقين - كأهل بدر والحديبية، وهذه الآيات وغيرها كثير تتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقًا، وتتضمن الثناء على المهاجرين، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
ولا يعارض هذا الإطلاق أو العموم ارتداد أربعة منهم لا سيما أنهم لم يشهدوا بدرًا ولم يبايعوا تحت الشجرة.
وتأمل ما جاء في "منهاج السنة النبوية" (7/ 475-479) لشيخ الإسلام ابن تيمية: "من المعلوم بالاضطرار، والمتواتر من الأخبار، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وكان الإسلام إذ ذاك قليلاً، والكفار مستولون على عامة الأرض، وكانوا يؤذون بمكة، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى، متجرعون لمرارة البلوى، وفارقوا الأوطان، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وهذا كله فعلوه طوعًا واختيارًا من تلقاء أنفسهم، لم يكرههم عليه مكره، ولا ألجأهم إليه أحد، فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يُكره به أحدًا على الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك - هو ومن اتبعه - منهيين عن القتال، مأمورين بالصفح والصبر، فلم يسلم أحد إلا باختياره، ولا هاجر أحد إلا باختياره؛
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء: إنه لم يكن من المهاجرين من نافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة، ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون، دخل في الإسلام من أهل المدينة، وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفًا وتقية، وكانوا منافقين.
كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101]؛ ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله محبين لله ولرسوله، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم، وأهلهم، وأموالهم.
وثم قال: فإن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟!
وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة، أو مال، أو نكاح، أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبًا لله ورسوله، طوعًا غير إكراه كيف يعادون الله ورسوله طلبًا للشرف والمال؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوي المقتضي للموالاة، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً؟
قال: ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم، ولا قدرتهم، فعلم يقينًا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم البتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعًا فلم يرتد منهم - ولله الحمد - أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو، وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ثم رأوا ظهور الإسلام فأسلموا مغلوبين، فهموا بالردة فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص.
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما أسلموا طوعًا، والمهاجرون منهم، والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله، وقواهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي منَّ على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله، وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء". اهـ.
أما ابن خطل- وهو من بنى تيم الأدرم بن غالب، كان قد أسلم وبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقًا، وبعث معه رجلاً من المسلمين، فعدا عليه وقتله ولحق بالمشركين، فوجد يوم الفتح وقد تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث المخزومى وأبو برزة الأسلمى، ومثله مقيس بن صبابة قتل مسلمًا، وهو أيضا مما هدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه في حين دخوله مكة.
ولا يخفى أن ردة هذين الرجلين لا يخصص عموم الآية؛ بل هما لا يدخلان في عمومها؛ لأنهما ليس من السابقين، وإنما هاجرا بعدما استقرّ النبي صلى الله عليه في المدينة، والآية عامة في كل من اتصف بما ورد فيها من ضوابط،، والله أعلم.