♦ الملخص:
شابٌّ كان مسرفًا على نفسه منذ سنين، ولما تاب بقِيَ في ذاكرة الناس صورته القديمة، وقد علِموا عنه ذنبًا معينًا، وهم يُعيِّرونه به؛ ما جعله حزينًا وآيسًا من رحمة الله، ويسأل: ما الحل؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم.
كنت مسرفًا على نفسي باقتراف الذنوب والمعاصي قبل عشر سنوات، وقد التزمت والحمد لله، وأصبحت محافظًا على الصلاة والأذكار وفعل الخيرات، لكنَّ الناس يتبعونني ويذكرونني بالمعاصي السالفة، ولقد بحثت عن تلك المعصية التي يعيرونني بها، فظننتها أولًا من المكروهات، ثم اتضح لي أنها قد تصل إلى حد الكبائر؛ فهي قرينة الزنا، وفي لحظة غضب من كلام الناس، استحوذ عليَّ الشيطان، قارفتها مرة أخرى، والآن أنا مكتئب وحزين، ونفسي تلومني دائمًا، وأُفكِّر كثيرًا بالموت، وأعتقد أن الله لن يتقبلني، ولن يرحمني، وكلما فكرت في الانتحار، أتراجع؛ لأن هذا الذنب أعظم، أصبحتُ كالمجنون، خاصة أن الناس علموا بذنبي، أرجو إفادتي، وجزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، كما وصف ذاته العلِيَّة بذلك؛ فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].
وباب التوبة مفتوح مهما عظُمَ الذنب؛ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ يقول المفسر السعدي رحمه الله في تعليقه على هذه الآية الكريمة: "يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل ألَّا يمكنهم ذلك، فقال: ﴿ قُلْ ﴾ يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين الله، مخبرًا للعباد عن ربهم: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب، ﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾؛ أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا: قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا؛ فليس لها طريق يزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك والقتل، والزنا والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ أي: وصفه المغفرة والرحمة وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما ساريةً في الوجود، مالئةً للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته".
فالواجب أن تدفعك هذه الذكريات - أخي الكريم - إلى المبادرة إلى الأعمال الصالحات، وليس اليأس والقعود؛ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
وقد قرن الله سبحانه التوبة بالعمل الصالح في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 - 71].
أخي الكريم، لا تلتفت إلى الماضي إلا أن يكون دافعًا للمزيد من الأعمال الصالحة في الحاضر، ولا تلتفت كذلك إلى استفزاز التافهين، ومن يعيرونك بماضيك، فتلك أخلاقهم ولن تستطيع تغييرهم، لكنك تستطيع تغيير التعامل، مع استفزازهم بالثقة والثبات، والانشغال بما ينفع.
وتأمل سيرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وكيف كان البعض معرضًا، بل ومقاتلًا في صف الأعداء ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، مقيمًا على الشرك بالله العظيم، ثم تاب وأسلم وحسُن إسلامه، ولم تزِدْه ذكريات الماضي إلا نشاطًا وهمة في طاعة الله؛ حياءً منه سبحانه، وطمعًا في مرضاته ومغفرته.
أسأل الله للجميع التوفيق والسعادة، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.