♦ الملخص:
فتاة في الأربعين من عمرها، لم يرزقها الله زوجًا طول هذه السنوات، رغم تكرار دعائها بالزوج الصالح؛ ما أدخلها في حالة من الإحباط واليأس وعدم الثقة في قدر الله، وتسأل: ما النصيحة؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم، أنا فتاة بلغتُ الأربعين من عمري بلا زوج، تقدم إليَّ الكثير منذ كنت صغيرة، ولم يكن مقدَّرًا لي أن أُخطب، إلا مرة واحدة منذ ستة عشر عامًا، ولم يكتمل الأمر لحدوث خلافات، ومنذ ذلك الحين أدعو الله عز وجل أن يعوِّضني ويرزقني زوجًا صالحًا وذرية صالحة، لكن الله لم يستجِبْ لي، وساءت حالتي النفسية جدًّا، وأُصبتُ بوسواس قهري شديد، وطرقت أبواب الأطباء، وتناولت كثيرًا من العلاجات، لكن بلا جدوى، لا أجد الراحة في حياتي؛ حيث أكره وظيفتي، ومع ذلك مضطرة للبقاء فيها لظروفي المادية الصعبة، وعندي وسواس قهري في الاستنجاء والوضوء والصلاة، حتى لقد أجمع الصلوات كلها وأصليها آخر اليوم، وأترك بعض الصلوات أحيانًا؛ من شدة ما ألاقيه من الوسواس، أتساءل: لماذا لم يستجب الله دعائي، رغم أنني أدعوه بحرقة وألم شديدين؟ تزوجت شقيقاتي وهن أصغر مني، وأنجبنَ؛ ما جعلني أشعر بالقهر والذل والانكسار، وكلما مرَّ يوم دون أن يتقدم لي أحد، أشعر بالخوف؛ فأنا على وشك أن تتوقف دورتي الشهرية، وكل ما أريده - فيما بقيَ من عمري - أن أكون طبيعية؛ زوجة، أمًّا، انقطع أملي في أن أشعر يومًا بالفرحة مثل غيري من البنات، أنا على حافة الجنون، وأفكر كثيرًا في الانتحار، وأدعو أن يتوفاني الله كل يوم، هل يمكن أن يغفر الله لي عدم رضائي بقضائه؟ أرشدوني لِما يجعل الله يغفر لي ويستجيب دعائي ويرحمني من هذه المعاناة، وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فقد قرأت رسالتكِ مرات عديدة، ومشكلتكِ مؤلمة حقًّا؛ وملخصها هو:
١- تقدم لكِ خُطَّاب وأنتِ صغيرة، ولم يكتب الله نصيبكِ مع أحدهم.
٢- بلغتِ الأربعين ولم تتزوجي بعدُ.
٣- تتألمين عندما تجدين أخواتكِ اللاتي أصغر منكِ بكثير تزوجن وأنجبن.
٤- قلتِ: إنكِ دعوتِ الله كثيرًا أن يرزقكِ زوجًا صالحًا، ولكن لم يستجب لك.
٥- أصابكِ اليأس والإحباط لدرجة أنكِ تدعين على نفسكِ بالموت، وتفكرين في الانتحار، وأصبحتِ - حسب تعبيركِ - على حافة الجنون.
٦- تتساءلين: لماذا لم يستجب الله دعاءكِ، برغم أنكِ تدعين بحرقة وألم، وتعاتبين الله كثيرًا؛ لأنه لم يستجب دعواتكِ؟
٧- أصابكِ وسواس قهري، ووسواس في الاستنجاء والوضوء.
٨- أصبحتِ تجمعين الصلوات؛ بسبب معاناتكِ مع الوسواس.
٩- وتسألين: هل يمكن أن يغفر الله سبحانه لكِ؛ لأنكِ غير راضية بقضائه وقدره؟
١٠- وأخيرًا تطلبين إرشادكِ لِما يكون سببًا لمغفرة الله تعالى لكِ، ولِما يكون سببًا لاستجابة دعواتكِ.
فأقول مستعينًا بالله سبحانه:
أولًا: أما عدم زواجكِ حتى الآن، فقد حصل بقدر سابق يعلمه الله سبحانه، ولعل فيه خيرًا عظيمًا لكِ، لو صبرتِ واحتسبتِ، واسترجعتِ، ولم تسخطي، بل أقول: لعل الخير فيه أعظم بكثير لكِ من الزواج، ولكنكِ لا تعلمين وتنظرين لظواهر الأمور، ولا تفكرين في بواطنها وما فيها من خير عظيم مخفيٍّ عنكِ؛ كما قال سبحانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
ثانيًا: اعلمي - حفظكِ الله - أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به، والصبر واجب شرعي؛ لقوله سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 49، 50].
ولقوله سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22].
ثم في الصبر ثواب عظيم؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
ثالثًا: أما تساؤلكِ: لماذا لا يستجيب الله دعواتكِ، وما أصابكِ بسبب ذلك من الإحباط واليأس إلى درجة الدعاء على نفسكِ بالموت؟
فكله نتيجة لضعف إيمانكِ وضعف صبركِ، وإلا فالمؤمن قوي الإيمان يدعو الله وهو موقن بإحدى الحسنيين؛ إما إجابة دعائه، أو عدم إجابته لِحِكَمٍ يعلمها الله سبحانه، أو تأخر إجابتها ابتلاء وامتحانًا، أو صرف شرٍّ عنه أشد منها، أو ادخارها له درجة عليا في الجنة؛ كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعةُ رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذًا نكثر، قال: الله أكثر))؛ [رواه أحمد في "المسند"، وصححه الألباني رحمه الله].
رابعًا: أما ما أصابكِ من وسواس قهري، ووسواس في الاستنجاء؛ فعالجيه بالآتي:
الدعاء.
الاسترجاع.
الرقية.
الصدقة.
المجاهدة على عدم الالتفات له أبدًا.
عرض نفسكِ على طبيب نفسيٍّ.
خامسًا: أما تأخيركِ للصلوات وجمعها كلها في وقت واحد، فمنكر عظيم، ولكن يجوز عند الضرورة الشرعية جمع فرضي الظهر والعصر معًا، والمغرب والعشاء معًا، جمعَ تقديم أو جمع تأخير.
سادسًا: كذلك تفكيركِ في الانتحار من علامات اليأس والقنوط، والمنتحر يظن نفسه يهرب من المشاكل إلى الراحة، وهو في الحقيقة يلقي بنفسه في العذاب الأليم؛ كما في الحديث؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يَجَأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسُمٍّ فسُمُّه في يده، يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))؛ [متفق عليه].
سابعًا: أما سؤالكِ: هل سيغفر الله لكِ سوء ظنكِ به سبحانه، ويأسكِ من رحمته؟ فأقول: نعم، إن شاء الله؛ لقوله سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
ثامنًا: أما سؤالكِ عما أرشدكِ له مما يكون سببًا لمغفرة ذنوبكِ واستجابة دعواتكِ، فأوصيكِ بالآتي:
1- الاستمرار في التوبة والاستغفار مع عدم اليأس.
2- الإكثار من الأعمال الصالحة؛ من صلاة، وتلاوة، وذكر، وصدقة، وصيام، وغيرها؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 114، 115].
3- الاستمرار في الدعاء مع قوة الثقة بالله سبحانه؛ قال سبحانه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
4- ذكِّري نفسكِ دائمًا بأن الخير هو ما يختاره الله لكِ، لا ما تختارينه أنتِ لنفسكِ؛ متذكرة قوله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
5- ومع ما سبق اسألي الله بصدق ويقين أن ييسر لكِ ما هو خير لكِ، وثقي أن الله سبحانه الحكيم لن ييسر لكِ أو يصرف عنكِ، إلا ما هو خير عظيم لكِ، علِمتِ به أو لم تعلمي.
حفظكِ الله، ويسر لكِ ما تعسر عليكِ، ورزقكِ الإيمان والرضا والتسليم والصبر.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.