♦ الملخص:
شابٌّ تعرض لكثير من التحرشات؛ ما أصابه بوسواس جعله يفسر تصرفات من حوله على أنها تحرش، ويسأل: ما النصيحة؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم.
تعرضت لمواقفَ تحرشٍ كثيرةٍ، وحاولت أن أكون شجاعًا، وألَّا أسكت، لكني فشلت، وقد قرأت في موقعكم أنني لن أُؤجر ما دمت أسكت، غير أنني والله لا أرتضي ذلك، وقد أصابتني تلك الحوادث بالوسواس؛ فصرت أشُكُّ في كل من يلمسني وأُفسِّر ما يفعله على أنه تحرش، ذُقت الأمرَّين، ولا أدري لِمَ أنا دون غيري أصابني هذا البلاء؟ وكلما سمعت أهلي يبكُون حالي، أتقطَّع لهم، وهم يقولون لي: اصبر، وسيعوِّضك الله، لكن كيف يعوِّضني عن أجمل سنين العمر التي تضيع سُدًى أمام عيني؟ وكيف يكون ربي أرحم بي من نفسي وقد أصابني ما أصابني؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
فنرحب بك أخانا الكريم، ونشكر لك ثقتك بموقع شبكة الألوكة، ونسأل الله أن نكون عند حسن الظن في تقديم ما يسرك، ويفيدك، وأن تجد بُغيتك، ونسأله أن يوفقك ويسعدك، ويبارك لك في حياتك.
تأثير التحرش يختلف من شخص إلى آخر حسب العمر، وحسب طريقة تعامل كل شخص، وحسب شدة المشكلة، ومدى تكرارها، وغير ذلك من العوامل المؤثرة، ومن الآثار التي يمكن أن تحدث لمن يتعرض لذلك: الشك، وفقدان الأمان، وفقدان الثقة بالآخرين، والاضطرابات النفسية؛ مثل: القلق، والتوتر، والاكتئاب، ولوم النفس إلى غير ذلك.
من خلال رسالتك السابقة، فإنني متفائل جدًّا بأنك ستتجاوز الأزمة بإذن الله، وأجِدُ من خلال عرضك لمشكلتك أنك قادر على التعامل، والتفاعل معها، وتغيير حالتك إلى الأحسن، وستكون - بإذن الله - قادرًا على تجاوز كل هذه الآثار؛ لأن لديك قوةَ تحمُّلٍ، تحتاج فقط أن تهتم بصحتك النفسية والعقلية والجسدية.
نحن لا نختار ما يُصيبنا من آلام، ولا نملك القدرة على تغيير هذه الأقدار، ولكن نملك الرضا عند حلولها، سيما أن هذه الأقدار مَضَت وانتهت، فلا داعيَ أن نتذكرها بعد أن هدأت، فلماذا تسمح لهذه الأحداث المؤلمة أن تسيطر عليك، وتتذكرها حتى إنك أُصبت بالوسوسة بأنها تحدث لك من حين لآخر، من جراء تقليب المواجع فيها؟ فأول ما ينبغي عليك هو أن تنسى ما حدث لك، وأن تعيش حياتك بهدوء.
ولو خُيِّر الإنسانُ في قدره أن يكون باختياره هو، فلن يتعدى ما اختاره الله سبحانه له، فلو فتح الله لك أن تختار لنفسك، فلن تختار إلا ما كتبه الله لك، وما تعيشه حاليًّا؛ لأن الله يعلم ما يصلح للإنسان أكثر من نفسه، ولنعلم أن المصائب التي تقع - سواء كانت خاصة أو عامة - فيها خير؛ يقول تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].
والله سبحانه عندما يمنع شيئًا، فقد يكون منع أذًى كثيرًا عنك؛ حيث أشارت عدد من الآيات إلى أن ما يصيب الإنسان ليس شرًّا محضًا، بل فيه خير كثير؛ قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، هناك من يتوقف عند مشكلة تحصل له، ويعتقد أن كلَّ طرق الحل أُوصدت في وجهه، ويُصيبه القنوط من إمكانية الوصول إلى حل للمشكلة، ولا بد أن نحذر كثيرًا من اليأس؛ يقول سبحانه: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، لم ييأس زكريا عليه السلام من طلب الولد، فهو شيخ كبير في السن، وهن عظمُه، واشتعل رأسه شيبًا، لا يُرجى منه الإنجاب، وامرأته عاقر، لا تلد، اجتمعت كل أسباب المنع، ولم يقنط من رحمة ربه، بل دعا بالولد، على رغم كل هذه الموانع، فدعاه دعاء الْمُوقِن، والواثق بقدرته، فاستجاب الله له مباشرةً؛ فقال: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90].
ولا يزعجك تأخُّرُ الفَرَجِ؛ فيوسفُ عليه السلام خرج أخيرًا وتبوَّأ المنزلة الكبرى (عزيز مصر)، وستُؤجر - بإذن الله - على صبرك، وعلى ما أصابك، والحكمة مما حدث لك قد يكون ابتلاء، وعليك الصبر، أو قد يكون معصيةً، فمن المهم أن تقترب من الله سبحانه، بالعبادة، والبعد عن المعاصي، والله فعلًا أرحم بك من نفسك، وقد قدَّر لك هذا البلاء للأسباب السابقة، ويجب عليك عدم الاعتراض على أقدار الله، وهذه الدنيا ليست هدفًا نهائيًّا، بل هي دار اختبار فقط، دار الحياة الأبدية لم تأتِ بعدُ، إن اقتربت من الله في هذه الدار الدنيا، فاعلم أن الله سيعوِّضك دارًا خيرًا منها في الآخرة، وهي دار المستقر الأبدية، أما هذه الدنيا فعلى اسمها، ستنتهي، وما وجدته من راحة بال ولذة سيزول وينتهي، ويبقى ما قدَّمتَه لله من عبادة، فهدف كل الناس في هذه الدنيا هدف واحد فقط؛ وهو عبادة الله كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والمال والزوجة والأبناء والراحة زينة في هذه الحياة الدنيا، تخدُم الهدف الأساسيَّ (عبادة الله)، وهي أهداف ثانوية، وليست أهدافًا أساسية، يجب ألَّا نسعى من أجلها، بل نسعى لعبادة الله؛ الهدف الأساس.
وما أصابك من حزن، فليس لديك وحدك، فكلٌّ يصيبه الحزن، الأنبياء عليهم السلام أُصيبوا بالحزن، وأهل الطاعة يُصيبهم الحزن، ولكن أهل الخير والطاعة إذا أصابهم الحزن، اشتغلوا بذكر الله وتحميده، وتهليله، وانشغلوا بالاستغفار، وأدَّوا ما فرضه الله عليهم، فهم على خير عظيم، وما أصابهم من حزن وهمٍّ كفَّارة لسيئاتهم، ويعالجونها بالذِّكر، ويجب ألَّا تنظر من جانب واحد؛ فالله سبحانه وتعالى أنعم عليك نعمًا كثيرة لم تنظر لها، وركزت على جانب واحد فقط، فالله أعطاك البصر، والسمع، والكلام، وغير ذلك من النعم الكثيرة، فغيرك محروم منها، والله أعطاك إياها، فاحمَدِ الله على كل النعم التي حولك.
والله سبحانه وتعالى رزقك بأعز اثنين على قلبك؛ أبوك، وأمك، تشكو إليهما، وتبُثُّ لهما همومك وأحزانك، وهذا فضل من الله عليك عظيم، ومِنَّةٌ يمتنُّ الله بها عليك، فالوالدان لذة الحياة وسعادتها، واعلم أن هناك كثيرًا حُرِموا من الوالدين، فأنت لست يتيمًا، ولست وحيدًا، فاشكر الله على هذه النعم العظيمة الكريمة التي اختصها الله بك.
ولا تنظر إلى من هو أحسن منك، بل انظر إلى من هو أسوأ منك، فهناك من ابتُلِيَ بلاءً عظيمًا، واحمَدِ الله على ذلك.
ومن المهم أن تزور طبيبًا نفسيًّا، وتعرِض حالتك عليه حتى يدرس حالتك، ويعطيك الإجراء المناسب لها، وبإذن الله تتحسن حالتك، وتعود إلى حالتك الطبيعية، وتتنفس الحياة من جديد.
والشجاعة تكمن في القدرة على اتخاذ القرار بعد دراسته؛ حيث إن اتخاذ القرار خطوة مهمة تحتاج إلى ثقة بالنفس، وشجاعة في القلب، فإذا اتخذت القرار يجب أن تقوم بتنفيذه بدون النظر إلى أي عقبات، أو عواقب، بل يجب أن تمضي قدمًا إلى الأمام، وابتعد عن الخوف؛ فإن الخوف يصيب تفكيرك بالشلل، واعلم أن لديك قَدْرًا هائلًا من القوة، والخوفُ قد أخفاها عنك، فأبْعِدِ الخوف، وتقدَّم وكُنْ شجاعًا؛ حتى تكتشف ما بداخلك من قوة، وتكون مُعينًا لك في هذه الحياة، فبداية الحياة السعيدة التي تنتظرها بخطوة صغيرة اسمها القرار، وستعيش قرير العين، مرفوع الرأس، لا تشتكي من شيء، بعدما تبدأ في قراراتك المتتابعة.
تقرَّب إلى الله، وادْعُه سبحانه في أوقات الاستجابة، فلديك فرص عظيمة في ذلك خمسَ مرات في اليوم في الصلوات، وفيما بين الأذان والإقامة، والثلث الأخير من الليل، وثق بالرحمن، وادْعُه، وسيأخذ بيدك سبحانه إلى الطريق الصحيح، واعلم أن الدعاء مستجاب بإذن الله؛ قال تعالى: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، ويقول سبحانه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، فأكْثِرْ من الدعاء لنفسك بالصبر، وقدرة التحمُّل، ومع الدعاء سيتغير الحال - بإذن الله - إلى الأحسن.
لابد أن تبدأ بالتغيير في حياتك؛ حيث إن التغيير له أهمية كبيرة في حل مشكلتك الحالية، قد نعجز عن تغيير غيرنا، لكننا نملك أن نُغيِّر أنفسنا، وهذه قاعدة مهمة؛ يقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، فعند طلب التغيير في الحياة لا بد أن نغيِّر ما بأنفسنا، ونُعيد بناء حياتنا على ما يُرضي الله سبحانه، وإذا علمنا أن ما أصابنا من أنفسنا، فيجب أن نبدأ في التغيير، والعودة إلى الله؛ يقول سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79]، فكُنْ قريبًا من الله ليكون الله معك، وثِقْ به سبحانه، ولا تَمَلَّ طرقَ بابه، واللجوء إليه، تجنَّبِ المعاصي وتُبْ منها، حافظ على الصلوات، وبقية العبادات، فلها أثر كبير في إصلاح حياتك، وحل هذه المشكلة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، والرزق ليس بالمال فقط، بل في كل جوانب الحياة، ومنها علاج هذه المشكلة.
ومن الأمور التي تُعينك على الْمُضِيِّ قُدُمًا أن تستشعر الأمور الطيبة، التي تبعث على الأمل، وأن تستمتع بها، وأن تُبعِدَ تفكيرك عن الأشياء السيئة؛ حيث إن الإنسان يعيش بما يفكر فيه، فإذا عشت اللحظات الطيبة فإنك تستمتع بها، وإذا عشت اللحظات السيئة، فإنها تُسبِّب لك الهمَّ، والقلق، والتعب، فعِشْ حياتك مستمتعًا، مبتعدًا عن منغِّصات الحياة، والتفكير في حالتك الحالية.
لا تنسَ قراءة ورد يومي من القرآن الكريم؛ فقد وَرَدَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ))؛ [مسلم: 804]، والقرآن كله بركة.
اشغل نفسك ببقية الأمور المهمة؛ مثل: برك بوالديك، وتطويرك لنفسك أيضًا، فالحياة لا يجب أن تتوقف عند مشكلة يمكن حلُّها، ونظرتنا لأنفسنا أو احترامنا لها لا يكون من خلال أعين الآخرين، بل ينبع من داخل أنفسنا، وتطويرنا لها، وتغييرنا لطريقة حياتنا.
ختامًا: نسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك من كل مكروه، وأن يُسعدك ويُعيد لك حياتك الطيبة برفقة والديك، ونسأل الله سبحانه أن يوفِّقك، ويشرح صدرك لكل خير، ويُسعدك في حياتك؛ إنه سميع مجيب.