تركت الدنيا لأجل الآخرة

منذ 1 سنة 233

تركت الدنيا لأجل الآخرة


استشارات متعلقة

تاريخ الإضافة: 22/5/2023 ميلادي - 2/11/1444 هجري

الزيارات: 20



السؤال:

الملخص:

فتاة مصابة بوسواس قهري، ثمة فكرة مسيطرة عليها؛ وهي أن العمل في الدنيا حرام، وأن الإنسان لا بد له ألَّا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يدرس، إنما يخلِّص نفسه للآخرة، وقد تركت لأجل تلك الفكرة كل شيء؛ من أكل ودراسة، وغير ذلك، وتسأل: كيف تُخرج هذه الفكرة من رأسها؟

التفاصيل:

أنا فتاة في العشرين من عمري، أعاني وسواسًا قهريًّا في الدين منذ أربع سنوات، يتمثل في شكوك في كل شيء في الدين، مع انعدام القدرة على إعمال العقل والمنطق، وقد شُفيتُ منه، لكن قبل أسبوعين وقعت لي انتكاسة، وعدتُ مرة أخرى للحرب مع هذا المرض، ثمة فكرة تقلقني ولا أستطيع مواجهتها؛ وتتمحور حول ترك الدنيا لأجل الآخرة؛ فهل عندما نترك المحرمات كلها، ونحب الحياة، ونعيش بسعادة، ونفكر في مستقبلنا، هل هذا حرام؟ وهل يعني التفكير في الآخرة أن نترك الدنيا؟ عقلي يخبرني أن ذلك حرام، وقد بحثت عن جواب لسؤالي، ووجدت آياتٍ قرآنية تذم الدنيا، وتذم الناس الذين يستمتعون بالدنيا، وبرغم قراءتي لتفسيرها، ومعرفتي أن المراد بذلك من يرتكبون المحرمات، ولا يبالون بالآخرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتزوج، ويعمل، ويقوم الليل ويرقد، ويصوم ويفطر، فإن الفكرة قد تعمقت في ذهني، فأهملت كل شيء، وبتُّ أشعر بالذنب إذا فكرت في أمر دنيوي؛ كالحب والزواج، والدراسة والمستقبل، وتراجع مستواي الدراسي بعد تفوق، وتسببت في قلق والديَّ، وإذا حاولت تجاوز تلك الفكرة، أشعر بالذنب أكثر؛ لازدرائي فكرة صحيحة؛ فما تشخيص هذا الأمر؟ وهل ما أفعله صحيح؟ وإن لم يكن، فما الحل لمشكلتي؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فنشكركِ على تواصلكِ معنا، وثقتكِ بنا، ونسأل الله أن ينفعنا وينفعكم بما سنذكره الآن:

بداية أريد أن أطمئِنَكِ أن من يستطيع التغلب على اضطرابه في أول مرة، فإن بنيته النفسية تكتسب مناعة ضد هذا الاضطراب؛ ما يسهل عليه التغلب على الاضطراب مرة أخرى، وبشكل أكثر فعالية، إلا أن الأمر يحتاج إلى عزم وإصرار كبيرين، كما أن اضطراب الوسواس القهري يعتبر من الاضطرابات النفسية الشائعة؛ حيث يُصاب به ما يزيد عن 1.8٪ من سكان العالم، وتعتبر نسبة الشفاء من هذا الاضطراب أكبر من الإصابة؛ حيث إن 5% يُشْفَون بشكل تام من الوسواس القهري في العالم، وهذا بالاستعانة بالمعالج النفسي، وإذا لزم الأمر العلاج الدوائي، مع المتابعة الدورية.

ولكن يمكننا في بضع نقاط أن نوضح بعض الإرشادات التي تعينكِ على فهم هذا الاضطراب والتعامل معه.

اضطراب الوسواس القهري ينقسم إلى جزأين؛ أولًا: جانب الوسواس؛ وهي أفكار وصور ذهنية مزعجة، متكررة مستمرة، رغم قناعة الفرد بسخافتها، ومحاولته لمقاومتها، فإنها تسبب له القلق والتوتر الدائم.

أما القسم الثاني، فهو الأفعال القهرية؛ حيث إن هذه الأفكار تتحول بعد مدة طويلة إلى فعل يجب على المصاب بها القيام به؛ حتى ينخفض القلق والتوتر، ويشعر بالراحة، فكلما زاحمته هذه الأفكار، ازدادت رغبته في القيام بفعل ما من أجل خفضها، وهذه الأفعال تنقسم بدورها إلى جزأين؛ أفعال سلوكية؛ مثل: التنظيف، إعادة الوضوء، إعادة ترتيب الأشياء وغيرها، وأفعال ذهنية متكررة؛ مثل: العد، وتكرار الآيات، وغيرها.

وعادة ما يأتي الوسواس القهري بأفكار وأفعال معًا، وقد يكون أفكارًا فقط؛ مثل النوع التأملي؛ الذي يبدأ في التساؤل عن أسئلة ليس لها إجابات كافية؛ مثل: السؤال عن الذات الإلهية، والبحث عن الحياة، وغيرها، ثم الشك فيما ورد في الكتب السماوية، من أدلة وبراهين، يعتبرها المصاب بالاضطراب أنها غير كافية وغير منطقية.

وجب عليكِ أن تعرفي أن هذه الأفكار لا تمثِّلكِ، بل هي من نتائج عقلكِ، وليست أنتِ، وهذا الفصل بين ذاتكِ وعقلكِ مهم جدًّا، فنحن لسنا أدمغتنا؛ لأن هذه الأدمغة تشكلت وتكونت بفعل عدة عوامل؛ منها الوراثة، والخبرات والتجارب الماضية، والتنشئة؛ ومن ثَمَّ فما قد يخطر في بالنا من أفكار ليس ما يمثلنا، أو يعبر عنا بشكل كلي، وهذا يقلل من مشاعر الذنب والقلق.

أوافقكِ الرأي فإن الحياة ثانية لا تستحق كل الاهتمام والرغبة فيها، وهناك آيات كثيرة تقلل من أهمية الدنيا، والتمتع برغباتها؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].

وهذه الآية تحفيز للمؤمن لأن يجعل دنياه وسيلة للعمل وكسب الأجر؛ لنَيل جنان الخلد في الآخرة، فالدنيا مزرعة للآخرة، وهي دار للعمل والابتلاء، وللإنسان فيها نصيب؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وقد جاء في تفسير هذه الآية أن على الإنسان العمل للآخرة من خلال عمله في الدنيا، وكسب الرزق الحلال، وتسخيره في الخير من صدقات وحسنات، مع التحذير من الإسراف والإفساد، ومن الإعجاز العلمي للقرآن أن كلمة الدنيا ذكرت 115 مرة، وكلمة الآخرة ذكرت 115 مرة بنفس العدد، وفي هذا دليل جازم على أهمية العيش والتمتع بنعم الله عز وجل، لقد خُلقتِ لإعمار الأرض من خلال عبادة الله، وجزءٌ من هذه العبادة يتمثل في العمل، فكيف لكِ أن تفوزي في الآخرة وأنتِ لم تستفدي وتستثمري قدراتك التي وهبكِ الله إياها لإفادة الآخرين؟ وهناك قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه وجد رجلًا معتكفًا في المسجد طوال الوقت، فسأله عن مصدر رزقه، ليخبره الرجل أن أخاه يعمل طوال اليوم من أجله، فأجابه عمر بأن أخاه العامل أفضل من هذا الرجل العابد؛ لأن العمل عبادة، والدراسة عبادة، بل حتى النوم بنيتي، الراحة من أجل استمداد الطاقة، ومواصلة العمل عبادة، ما لنا نحصر العبادات في الشعائر الدينية فقط؟!

هناك بعض التقنيات التي يمكنكِ أن تقومي بها عندما تأتيكِ هذه الأفكار الوسواسية؛ وهي:

1- الانتباه للفكرة وقت حدوثها والموقف المثير لها.

2- استخدام تقنية التوقف stop؛ وهي تقنية تعتمد على قول كلمة "توقَّف" عند الانتباه للفكرة الوسواسية.

3- استخدمي تقنيه الإلهاء؛ تقنية تعتمد على تشتيت الانتباه أثناء وجود هذه الفكرة؛ كترديدكِ من 100 إلى 1، بشكل عكسي، أو كأن تبحثي عن لون معين في محيطكِ، وهكذا.

4- تقنيه 30 دقيقة؛ وهي أسلوب تأجيل لقيام بعمل، أو التفكير في فكرة؛ حيث نؤجل هذا مدة 30 دقيقة؛ مما يمكننا من التحكم في أفكارنا ولو لمدة وجيزة، وهذا يدرب عقلنا على كونه قادرًا على مواجهة هذه الأفكار.

5- ممارسة شيء ممتع لكِ، فذلك يزيد من إفراز الهرمون السيروتونين؛ وهو هرمون السعادة، ويقلل هرمون القلق والتوتر كورتيزول، ومن بين هذه الأنشطة الرياضة، قراءة رواية، خروج في نزهة...

الحقيقة هناك الكثير من التقنيات والأساليب، لكنها وحدها لا تكفي؛ فالفرد يحتاج إلى مختص ينبهه، ويوضح له بعض النقاط، ويدربه على بعض المهارات المهمة بشكل مباشر؛ لذا فإن هذه الاستشارة لا تغني عن زيارة مختصين نفسيين في أقرب وقت.