كتب محمد محمد حسين عن سلامة موسى في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر»، الصادر في طبعته الأولى عام 1958. في الفصل الثالث «قديم وجديد» من هذا الجزء اختار ثلاثة كتاب، هم: سلامة موسى وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي. الأول والثاني اختارهما على اعتبارهما يمثلان «الجديد»، والثالث اختاره على اعتباره يمثل «القديم».
وعلل اختياره لسلامة موسى وطه حسين ممثلين للمذهب الجديد، بأنهما أكثر دعاة «الجديد» تطرفاً. وعلل اختياره للرافعي ممثلاً للمذهب القديم، بأنه أبرز المدافعين عن التراث الإسلامي والعربي من المحافظين.
وقد اختار - كما قال - أن يقدمهم من ثلاثة كتب تصور مذاهبهم. وهي: «اليوم والغد» لسلامة موسى، و«مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، و«تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد» للرافعي.
ومع اتفاق سلامة موسى مع طه حسين - كما قال - على الدعوة إلى الجديد بتطرف، إلّا أنه ميَّز بينهما بقوله: «الأول يعرض آراءه في صراحة عارية لا يبالي معها سخط الناس أو رضاءهم، بل لعله يقصد إلى إسخاطهم ويلتذُّ به. أما الثاني فهو يدور حول أهدافه ويعبر عنها في دهاء، محاولاً إقناع الناس وكسب رضاهم، سالكاً لذلك أحب السبل إلى نفوسهم وأقربها إلى قلوبهم، وكأنه لا ينسى ما تعرض له حين أخرج كتابه (في الشعر الجاهلي)».
ولأن ما يهمنا في هذا المقام، هو ما كتبه عن سلامة موسى، سأذكر عناوين الموضوعات التي كتبها عنه، وهي ما يلي:
«كتاب (اليوم والغد) لسلامة موسى: مصر جزء من أوروبا وليست جزءاً من آسيا، يهدم شرقية المصريين وعروبتهم وإسلامهم، سخطه على مصطفى كامل وثناؤه على لطفي السيد، جرأة المؤلف على الإسلام».
في الفصل الرابع «دعوات هدامة» من الجزء الثاني من كتابه، وتحت عنوان «هدم اللغة العربية»، تحدث محمد محمد حسين عن دور سلامة موسى في الدعوة إلى كتابة العلوم والأدب باللهجة العامية.
وعلى نحو ثانوي وفي هوامش الكتاب ضمن الباب الأول من هذا الفصل، أشار إلى مقال سلامة موسى «الدين والتطور وحرية الفكر فيهما»، وإلى مقال للرافعي رد به على سلامة موسى وما طالب به من مساواة المرأة بالرجل في الميراث، وإلى مقال عبد الحميد البكري رئيس جمعية الرابطة الشرقية، الذي رد فيه على قول سلامة موسى، بأن الشرق لم يعرف الحكومة النيابية الديمقراطية. ومما يجدر ذكره أن سلامة موسى من أبرز الرافضين لدعوة الرابطة الشرقية في مصر.
غالي شكري في أول كتاب صدر له، وهو كتاب «سلامة موسى وأزمة الضمير العربي»، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1962. كان قد قال في مقدمة هذه الطبعة: «أرثي لقلة قليلة من أساتذة جامعتنا عندما يمسكون المعاول بغير قصد ليحطموا ما لا قبل لهم بتحطيمه، لأنه أصبح والتاريخ شيئاً وحداً يقاوم الزمن، فكم بأولئك المضللين - على أحسن الفروض - عندما يقول أحدهم هو الدكتور محمد حسين، في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، إن سلامة موسى كان داعية للاستعمار! أو الدكتور بدوي طبانة في كتابه (البيان العربي) الذي يطالب تلاميذه بكلية دار العلوم، أن يحفظوا عن ظهر قلب أن سلامة موسى كان أداة تحطيم للغة العربية... وإلا سقطوا في الامتحان!».
يغلو غالي شكري في التعظيم من شأن سلامة موسى. فغلوه فيه مع شغفه العاطفي بشخصيته، كان سبباً من أسباب تزويره - بعد وفاة طه حسين - لحوار معه، نشره عام 1974 في مجلة «القضايا العربية» – وهي مجلة ليبية كانت تطبع في سنواتها الأولى ببيروت - تحت عنوان «هكذا تكلم طه حسين لآخر مرة»، وفي العام نفسه طبعه في كتيب في دار نشر لبنانية بعنوان آخر هو «ماذا يبقى من طه حسين؟». ففي حوار غالي شكري المزور مع طه حسين سأله عن تجربته في رئاسة تحرير مجلة «الكاتب المصري»، وكان مما قاله طه حسين في إجابته: «... مع الشباب جنباً إلى جنب كان الكبار يكتبون، سلامة موسى نشر (تربيته) كلها في (الكاتب المصري). هذا الكتاب أعظم ما كتب، وقد نشرته في مطبوعات المجلة بعد ذلك».
في هذه الإجابة، سلامة موسى هو المثال الوحيد، الذي أورد طه حسين للكبار الذين كتبوا في المجلة التي رأس تحريرها. وكتاب سلامة موسى «تربية سلامة موسى»، هو «أعظم ما كتب» ليس في مجلة «الكاتب المصري» فحسب، بل «أعظم ما كتب» على الإطلاق.
وعلى لسان من قيلت هذه المجازفة الرعناء؟ قيلت على لسان طه حسين!
وهذا رأي غالي شكري، وليس رأي طه حسين، فقد قاله فيما بعد بقدر معقول على لسانه في مجلة «أدب ونقد» اليسارية عام 1989. إذ قال في مقاله «طه حسين والشخصية الوطنية» عن كتاب «تربية سلامة موسى»: إنه كتاب سلامة موسى العظيم.
وسأله هذا السؤال: لقد أتيحت لجيلكم فرصة أن يعمل بالصحافة جنباً إلى جنب مع الأدب، فماذا ترون من خلال تجاربكم الشخصية: هل أفادت الصحافة الأدب، وهل أفاد الأدب الصحافة، في ذلك الحين؟
بعد سؤاله هذا، يقول غالي شكري: إن طه حسين أخذ نفساً عميقاً وراح يجيب بتؤدة وتركيز: «جميعنا تقريباً عمل بالصحافة. هيكل (يقصد الدكتور محمد حسين هيكل مؤلف «زينب»)، هو الذي أغراني في البداية. ولكن الجميع، كالعقاد والمازني وسلامة موسى، عملوا في الصحافة. لم يكن الأمر تنازلاً من جانبنا، ولا استهلاكاً لنا من جانب الصحافة».
غالي شكري يعلم، وقبله طه حسين يعلم، لأنه يكبره بخمسة وأربعين عاماً، ولأنه من المجايلين لسلامة موسى، أن سلامة موسى في أي من سني حياته لم يلتحق بوظيفة حكومية. فهو في الأساس ورث من أبيه، الذي توفي وهو دون السنتين، عقاراً صغيراً يدر عليه شهرياً دخلاً ثابتاً يتراوح ما بين 25 و30 جنيهاً، واحترف العمل الصحافي مهنة له، واحترف تأليف الكتب التي كان يكسب منها أموالاً زهيدة.
يقول غالي شكري في حواره المزور: قاطعني طه حسين بمودة ليقول: «موقف السلطة من حرية الفكر في كل زمان ومكان لا يدعو للارتياح تماماً. إنه موقف نسبي تمليه اعتبارات طارئة. ولكن الذي يدعوني للانزعاج هو المناخ العام، هو الرأي العام. يخيل إلي في صومعتي أننا عشنا أنا وأبناء جيلي في مناخ أكثر سماحة وأرحب صدراً. فأنتم تقولون أحياناً ما سبق أن قلناه نحن بطريقة أوضح، وأحياناً تقولون أقل مما قلناه إلى هذه الدرجة أو تلك. ومع هذا فإني أسمع ضجيجاً غريباً، لم نعرفه نحن غالباً إلا حين اتهمت أنا بالمساس بالمقدسات، وحين اتهم العقاد بالعيب في الذات الملكية، وحين اتهم سلامة موسى - وهنا ضحك طه حسين من كل قلبه - بإلقاء قنبلة في سينما مترو».
يستنتج القارئ، وبخاصة من هذه الإجابة أن بين طه حسين وبين سلامة موسى صداقة حميمة، وأن سلامة موسى من أهل مودة طه حسين. وهذا ما لا يقوله تاريخ الأدب المصري. فسلامة موسى كان بين حين وحين يهاجم طه حسين ويغمز فيه ويلمز. وكان طه حسين في بعض الأحيان يرد عليه بما يسؤه. ولقد ظل سلامة موسى يهاجم طه حسين إلى ما قبل وفاته في 4 أغسطس (آب) 1958. بسنتين. وانطوى هجومه الأخير عليه وعلى العقاد على مزايدة سياسية ثورية سخيفة ورخيصة.
وفيما يبدو أن سوء العلاقة وترديها بين سلامة موسى وطه حسين، كان يزعج غالي شكري، لأنه ممجد لمشروع سلامة موسى الفكري ولشخصه، وفي الوقت عينه يكبر مشروع طه حسين الأدبي والفكري. فهو من قلة من المثقفين الماركسيين العرب، الذين لم يجفوا مشروعه الأدبي والفكري ويطرّحوه في الخمسينات والستينات والسبعينات وشطراً من الثمانينات الميلادية، لأسباب سياسية وفكرية تتعلق بمذهبه الليبرالي، ولم يعرضوا عن عصر النهضة العربي لشيوع المذهب الليبرالي بين مثقفيه العلمانيين ومثقفيه الدينيين الإصلاحيين.
نعود إلى ما كنا فيه من حديث، فأقول: إن محمد محمد حسين كتب عن سلامة موسى مرة واحدة في ذلك الجزء من الكتاب المشار إلى اسمه آنفاً. ولم يكتب عنه مرة أخرى، لا في كتابه «حصوننا مهددة من داخلها»، ولا في كتابه «الإسلام والحضارة الغربية»، ولا في كتابه «أزمة العصر»، ولا في كتابه الذي جُمعت فيه أبحاث نشرها في مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وطبع في كتاب تحت عنوان «مقالات في الأدب واللغة» بعد سنوات من وفاته. وفي هذا الكتاب ثمة أبحاث كـ«اقتراحات للنهوض بمستوى اللغة العربية» و«تطوير قواعد اللغة العربية» و«فقه اللغة العربية بين الأصالة والتغريب»، كان من المتوقع في الإطار التاريخي لهذه الأبحاث أن يعرّج على دعوات سلامة موسى حول تطوير اللغة العربية وتيسيرها، وأن يستبدل بها اللهجة المحكية، والانتقاص من اللغة العربية لكنه لم يفعل ذلك. فسلامة موسى بعد أن كتب عنه ما كتب في كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، صار نسياً منسياً في كتبه وأبحاثه اللاحقة!
في حين أن أستاذه العزيز عليه أيام علمانيته، طه حسين استصحبه في كل كتبه وفي أبحاثه التي ذكرت أسماءها، بغية سحقه وتقطيعه إلى أشلاء مجدداً مع كل كتاب ومع كل بحث له!
العجيب أنه في تلك الكتب والأبحاث لم يتعرض للويس عوض بالنقد ولو لمرة واحدة. فهل كان بين محمد محمد حسين وبين لويس عوض اللذين جمعتهما زمالة دراسية في جامعة فؤاد، في أيام علمانية الأول، أو بعد تحوله إلى اتجاه إسلامي متطرف، عهد غير مكتوب بألا يتعرض الأول للثاني، لا بخير أو بشر؟
وإذا بحثنا في كل ما كتبه محمد محمد حسين عن اسم غالي شكري، فإننا سنعرف أنه من الأسماء العلمانية المغْفلة عنده.
المرة الواحدة التي كتب فيها محمد محمد حسين قديماً عن سلامة موسى هي من مصادر كتابات الإسلاميين في نقدهم المكرر لسلامة موسى، التي ما زالوا يوالون كتابتها إلى يومنا هذا. وتكمن مشكلتهم مع ما كتبه محمد محمد حسين عن سلامة أنه كتب عنه مرة واحدة، ولم يتوسع في الكتابة عنه، بالقدر الذي توسع فيه، بكتابته الهدمية عن طه حسين.
لدى الإسلاميين مصادر أساسية تمدهم بمعلومات عن تاريخ التحديث في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، أو اتصال الثقافة الغربية في هذين العالمين وتأثيرها فيهما إلى بعيد منتصف القرن الماضي. وهذه المعلومات مقدمة بنهج إسلامي أصولي متطرف.
من أبرز هذه المصادر في الموضوع الذي أشرت إليه:
كتاب «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمد محمد حسين، وكتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» لمحمد البهي، وكتاب «حصوننا مهددة من داخلها» وكتاب «الإسلام والحضارة الغربية» لمحمد محمد حسين، وكتاب «أباطيل وأسمار» و«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود محمد شاكر، وكتاب «الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية» لأبي الحسن الندوي، وكتب محمد جلال كشك الإسلامية، والتي منها، على سبيل المثال: «الغزو الفكري»، «الماركسية والغزو الفكري»، «القومية والغزو الفكري»، «النكسة والغزو الفكري»، «أخطر من النكسة»، «دراسة في فكر منحل».
قبل عامين أو ربما أكثر، عرفت اسماً كان جديداً علي معرفته، حامله هو الدكتور محمد محمد أبو موسى. ولاحظت أن وراءه «بروباغندا» إسلامية تزف اسمه بأنه «علّامة» وبأنه «شيخ البلاغيين»، وبأنه من المدرسة الشاكرية، وامتداد لمحمود محمد شاكر.
لم أهتم بالتعرف إليه من خلال قراءة بعض كتبه، أو سماع دروسه المنقولة على موقع «يوتيوب»، لأن كتبه متخصصة في علم البلاغة العربية، ودروسه في موقع «يوتيوب» تدور في نطاق هذا العلم وما حوله، وأنا لست معنياً بهذا النطاق وبما حوله، وإن كان صاحبه «علّامة» في اللغة والبلاغة والنحو والصرف، و«شيخ البلاغيين» ورئيسهم في زمننا هذا وفي أزمان اللغة العربية في عصورها الغنية والبهية، وتلميذاً لمحمود محمد شاكر، فهذه بحد ذاتها لا أراها تزكية، بل أراها محل شبهة، فقد يكون متأثراً به على صعيد آرائه الثقافية والفكرية، وعلى صعيد آرائه الآيديولوجية. وإن كان كذلك، فهو حتماً سيكون صاحب تطرف ثقافي وفكري وآيديولوجي بميسم ديني.
وبما أني مؤخراً أكتب عن محمود محمد شاكر، رأيت تسجيلاً مصوراً قصيراً على موقع «يوتيوب» له يحف به سائل وجمهور يستمع له، عنوانه «ذكريات محمد محمد أبو موسى مع محمود شاكر وثقافة الأمة» فقادني الفضول إلى أن أستمع له، راجياً أن يكون فيه معلومة عن محمود شاكر ينبغي علي أن أعرفها.
وكان مما قاله بفصحى ممزوجة بعامية في هذا التسجيل عن محمود محمد شاكر: «فكنت أهتم به جداً، وأهتم بقراءته وبكتبه. ولا زلت إلى هذه اللحظة حين أجد العاصفة، ستقتلع الطلاب الذين أمامي، العاصفة الفاجرة التي اسمها التحديث والتنوير، ستقتلع طلابي، أقول لهم: هناك كتب لا بد أن تقرأوها عشان تريّحوني من المسألة، عشان تفهموا، لأني مش حاقدر أشرح لكم تاريخ: (أباطيل وأسمار)، و(الطريق إلى ثقافتنا) لمحمود شاكر، و(الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) للدكتور محمد البهي، و(الاتجاهات الوطنية) للدكتور محمد حسين. اقروا الكلام ده عشان تعرفوا اللي حاقوله لكم ناشيء منين. العاصفة دي جاية منين. الفكر اللِّي ملأ الأرض بتاعتنا الآن ده مطبوخ فين. بس».
هذه الكتب الأربعة التي انتخبها لطلابه، إن كانوا طلاباً عاديين غير محصنين وقرأوها قراءة استسلامية، انقيادية، انبطاحية، ستعصف بهم، وتقذف بهم إلى مستنقع التطرف الثقافي والفكري الأصولي الإسلامي.
وكتابان من الكتب الأربعة التي اختارها، وهما: كتابا محمد محمد حسين ومحمد البهي، كان سيد قطب قبله اختارهما من ضمن الكتب التي فرض قراءتها على أبناء تنظيمه الثوري المسلح في «المنهج الدراسي والتربوي للدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية، وأعوانهم لضرب الإسلام، ووسائلهم في ذلك».
ولم يدرج كتاب «أباطيل وأسمار» في منهجه الدراسي والتربوي، لأنه حين صممه كان هذا الكتاب مقالات ما زالت تنشر في مجلة «الرسالة».
وبطبيعة الحال الزمني لم يدرج كتاب محمود شاكر الآخر «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» في منهجه الدراسي والتربوي، لأنه صدر في عام 1987 عن سلسلة كتاب «الهلال». وفي العام نفسه ضمه إلى كتابه «المتنبي» في طبعة عام 1987. وأصبح عنوان الكتاب منذ ذاك، «المتنبي، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا».
وبالمناسبة منهاج سيد قطب الدراسي والتربوي، الحركي الأصولي لتنظيمه المسلح تضمن كتابين آخرين لمحمد محمد حسين، هما: «الروحية الحديثة» و«في أوكار الهدامين». والكتاب الأخير استقر عنوانه في طبعات لاحقة على «حصوننا مهددة من داخلها».
بحكم أن محمد محمد أبو موسى أستاذ جامعي برتبة عليا في التدريس الجامعي، أشرف على رسائل جامعية في جامعة الأزهر، وفي جامعة أم القرى، وربما في جامعة بنغازي التي درّس فيها من عام 1973 إلى عام 1977، فمن المؤكد أنه ينبه أصحاب هذه الرسائل إلى أمر منهجي أساسي كالتساوق والاتساق والاطراد في الأنظومة الآيديولوجية وفي السرد التاريخي، سأفيده بمعلومة عزبت عن ذهنه وعقله، وهي أن كتاب محمد البهي «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، الذي ألّفه في أثناء تحول فكري حاد حصل له، يتضمن ثغرة منهجية كبيرة. وهذه الثغرة المنهجية الكبيرة، تجعله لا يتساوق ويطرد مع كتاب محمد محمد حسين (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) في جانب من جوانبه، والذي ألّفه بعيد تحوله من اتجاه علماني إلى اتجاه إسلامي أصولي. أما الجزء الأول منه إذا ما قرأناه في طبعته الأولى، فالكتاب كان كتبه بمنهج علماني خالص. والمنهج العلماني الخالص أعني به هنا، قدراً كبيراً من الكتابة الأكاديمية العالية بموضوعية صارمة، تحد من الأهواء الآيديولوجية والعاطفية والشخصية وتقلَّصها بقدر المستطاع.
وكان وراء الثغرة المنهجية الكبيرة في كتاب البهي، سبب خاص وشخصي، يتصل بماضيه التعليمي.
أقول للدكتور محمد محمد أبو موسى، قولاً علمياً منهجياً، لا قولاً إنشائياً دعوياً، كما هو قوله لطلابه في الدراسات العليا: لا تخض في موضوع تجهل رأسه وذيله، ويخفاك أصله وفصله. واحصر حديثك في البلاغة والنحو والصرف وتفسير القرآن بلاغياً.
والكارثة تتعدى أنك تخوض فيما لا تعلم، إلى أنك تقدم لطلابك وللمعجبين بك، - استناداً إلى حيثيتك وموقعك الأكاديمي - نصيحة قد رأينا آثارها المضرة والمدمرة في العالم العربي منذ عقود طويلة، وبخاصة في الرواق الأكاديمي. فالكتب التي أشار بها هي من ضمن الكتب التي ساهمت في نمو ظاهرة التآكل الداخلي في الفكر الإسلامي وقضم بعضه بعضاً باسم الإسلام الصحيح والوطنية الإسلامية في مواجهة الاستعمار، وباسم مناهضة التحديث والعصرية والعقلانية القادمة من الغرب.
بروباغندا الإسلاميين أتت بعد بروباغندا النازيين وبروباغندا الفاشيين وبروباغندا الشيوعيين وبروباغندا أميركا وبروباغندا أوروبا الغربية إلا أنها تفوقت على هؤلاء جميعاً بأشواط كبيرة في فن التحايل والتضليل والخداع والكذب. وهذه مفخرة لهم كان على كليات الإعلام الإسلامي في العالم العربي أن تحتفل بها برسائل ماجستير ودكتوراه، تطلعنا على السر المكنون في تفوق بروباغندا الإسلاميين على بروباغندا الغرب والشرق.
وأنبه بأني أستعمل الكلمة الأصلية: «بروباغندا»، لا الكلمة المقابلة لها بالعربية: «دعاية»، بتعمد، لأن الكلمة الأصلية لها وقع، وفيها إشهار واضح وفاضح لمعناها المرذول. وللحديث بقية.