بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا!

منذ 10 ساعة 22

أُنْشِدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَصِيدَةٌ لِلشَّاعِرِ الْمُخَضْرَمِ، عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُنْشِدُ قَوْلَهُ:

وَالْمَرْءُ سَاعٍ لِأَمْرٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ

قَالَ عُمَرُ: «صَدَقْتَ»، وَرَدَّدَ: وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ، مُعْجَباً بِحُسْنِ تَفْصِيلِهِ وَتَقْسِيمِهِ.

وَمِنْ هَذَا الْإِعْجَابِ بِقُدْرَةِ الشِّعْرِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنِ الْحِكْمَةِ، يَبْرُزُ بَيْتُ عَبْدَةَ كَأُنْمُوذَجٍ مُتَمَيِّزٍ.

وعَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ، شَاعِرٌ فَحْلٌ مِنْ قَبِيلَةِ تَمِيمٍ، كَانَ أَسْوَدَ، شُجَاعاً، وَعَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَشَهِدَ الْفُتُوحَاتِ. قَاتَلَ الْفُرْسَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا.

وعَبْدَةُ هُوَ الَّذِي رَثَى سَيِّدَ تَمِيمٍ، قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، بِبَيْتٍ شَاعَ فِي الْآفَاقِ لِشُهْرَتِهِ وَإِتْقَانِهِ:

وَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا

اعْتَبَرَ النُّقَّادُ، كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَالْأَصْمَعِيِّ، هَذَا الْبَيْتَ أَرْثَى بَيْتٍ قِيلَ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: «بَيْتُ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ مَا لَهُ ثَانٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ».

وقَبْلَ الْبَيْتِ الشَّهِيرِ، قَالَ عَبْدَةُ:

عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا

تَحِيَّةَ مَنْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً إِذَا زَارَ عَنْ شَحْطٍ بِلَادَكَ سَلَّمَا

وَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا

وَفِي قَوْلِهِ «عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ»: اسْتَخْدَمَ عَبْدَةُ تَحِيَّةَ الْمَوْتَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: «عَلَيْكَ السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ». وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإِنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلامُ عَلَيْكَ». وَأَكَّدَ الشَّاعِرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا»، رابِطاً اسْتِمْرَارَ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَهوَ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ.

وقوله «تَحِيَّةَ مَنْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً»: يَصِفُ فَضْلَ قَيْسٍ وَكَرَمَهُ، فَكَلِمَةُ «أَلْبَسَهُ» تَدُلُّ عَلَى إِغْدَاقِ النِّعَمِ حَتَّى كَأَنَّهَا كَسَتِ الشَّخْصَ وَغَطَّتْهُ، وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ «أَعْطَاهُ».

«إِذَا زَارَ عَنْ شَحْطٍ بِلَادَكَ سَلَّمَا»: يُشِيرُ إِلَى أَنَّه إِذَا سَافَرَ مَسَافَاتٍ بَعِيدَةً («شَحْطٍ») قَاصِداً دِيَارَهُ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ تَجْدِيدَ الْوَصْلِ وَالْمَحَبَّةِ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ.

كَانَ عَبْدَةُ قَدْ أَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ عَهْداً أَلَّا يُسَافِرَ إِلَّا كَانَ آخِرَ مَا يَزُورُهُ قَبْلَ سَفَرِهِ هُوَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَأَلَّا يَعُودَ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا زَارَهُ أَوَّلًا لِلسَّلَامِ. وَظَلَّ مُلْتَزِماً هَذَا الْعَهْدَ طِيلَةَ حَيَاةِ قَيْسٍ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ اسْتَبْدَلَ بزِيَارَةِ بَيْتِهِ زِيَارَةَ قَبْرِهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ.

وقوله «وَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ»: أَيْ أَنَّ مَوْتَ قَيْسٍ لَمْ يَكُنْ كَمَوْتِ شَخْصٍ عَادِيٍّ. ثُمَّ شَرَحَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: «وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا»: فشَبَّهَهُ بِبُنْيَانٍ عَظِيمٍ كَانَ يَحْمِي قَوْمَهُ، فَلَمَّا مَاتَ تَهَدَّمَ هَذَا الْبُنْيَانُ، حَتَّى صَارَ قَاعاً صَفْصَفاً. وَاسْتَخْدَمَ «تَهَدَّمَ» بِالتَّشْدِيدِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عِظَمِ الْخَسَارَةِ وَشِدَّةِ التَّدْمِيرِ، بَدَلاً مِنِ «انْهَدَمَ» الَّتِي تَدُلُّ عَلَى هَدْمٍ أَقَلَّ تَأْثِيراً.

لَمَّا كَبِرَ عَبْدَةُ وَأَسَنَّ، جَمَعَ بَنِيهِ وَأَنْشَدَ قَصِيدَةً يُوصِيهِمْ بِهَا، وَمِنْهَا:

وَاعْصُوا الَّذِي يُزْجِي النَّمَائِمَ بَيْنَكُمْ مُتَنَصِّحاً ذَاكَ السِّمَامُ الْمُنْقَعُ

يُزْجِي عَقَارِبَهُ لِيَبْعَثَ بَيْنَكُمْ حَرْبًا كَمَا بَعَثَ الْعُرُوقَ الْأَخْدَعُ

فَهُوَ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ النَّمِيمَةِ وَالْفِتْنَةِ، مُشَبِّهًا إِيَّاهَا بِالسُّمِّ الْمُمِيتِ وَالْعَقَارِبِ، الَّتِي تُثِيرُ الْحَرْبَ، كَمَا تَتَفَجَّرُ الدِّمَاءُ مِنَ الْعُرُوقِ.

قَالَ رَجُلٌ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: «كَانَ عَبْدَةُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَهْجُوَ». فَرَدَّ خَالِدٌ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَهُ مِنْ عِيٍّ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَرَفَّعُ عَنِ الْهِجَاءِ وَيَرَاهُ ضَعَةً، كَمَا يَرَى تَرْكَهُ مُرُوءَةً وَشَرَفًا». وَأَنْشَدَ:

وَأَجْرَأُ مَنْ رَأَيْتُ بِظَهْرِ غَيْبٍ عَلَى عَيْبِ الرِّجَالِ ذَوُو الْعُيُوبِ

يَعْنِي أَنَّ عَبْدَةَ كَانَ قَادِراً عَلَى الْهِجَاءِ، لَكِنَّهُ اخْتَارَ الْعُلُوَّ وَالشَّرَفَ عَنْهُ؛ إِذْ إِنَّ الْهُجُومَ عَلَى الْآخَرِينَ خِفَّةٌ تَتَنَزَّهُ عَنْهَا نَفْسُ عَبْدَةَ النَّبِيلَة.