يواجه الصحافي عند تغطية الحرب مشكلة انتقاء المفردات لوصف الأطراف والأحداث. كانت الجريدة وسيلة التعبير السائدة في مشواري الصحافي الممتد لخمسة وخمسين عاماً غطيت فيها صراعات متعددة، لكن مشكلات صحافة اليوم أكثر تعقيداً، لأنها آنية، من تلفزيون وإذاعة، ومواقع حية (وإن كانت مشكلات المواقع المقروءة أقل من المبث إذاعياً).
أزمة تفجرت بين أعرق وأقدم الهيئات الإذاعية (بي بي سي)، ومعلقين من صناع الرأي العام، ومنظمات حقوقية، ونواب البرلمان، والحكومة البريطانية. فمثلاً تحول لقاء مذيعة البرنامج الصباحي «توداي» في راديو «بي بي سي»، الذي يقرر الأجندة السياسية، ووزير الدفاع غرانت شابس، أول من أمس، إلى تبادل للاتهامات. الوزير، مثل المنظمات والتيارات التي ذكرناها، ينتقد «بي بي سي»، في عدم الالتزام بالمفردات التي تذكرها القوانين البريطانية، وتعريفات تعد رسمية لأنها مدونة في محاضر مجلس العموم لوصف الأطراف المتورطة في، والتي فجرت، الأحداث المأساوية الدائرة بجنوب إسرائيل وقطاع غزة، والمذيعة تتهم الوزير والحكومة بالتدخل في استقلال الهيئة وسوء فهمه لحرية الصحافة.
«بي بي سي» وضعها فريد من نوعه، فهي تمول مباشرة من رخصة (رسوم) يدفعها كل بيت في المملكة المتحدة، حسب تأسيسها بمرسوم ملكي؛ لكنّ دفع الرسوم إجباري لا اختياري، إذ تتدخل الحكومة لضمان تحصيل الرسوم، لأن عدم الدفع مخالفة تعاقب بالغرامة أو الحبس. هذا بدوره يطرح أسئلة فلسفية وأخلاقية: الهيئة تحتاج ذراع الحكومة القوية وقوانينها لضمان التمويل المباشر من الشعب، فهل ذلك يجعلها حكومية؟ أم أن التمويل يضمن استقلالها، مثلما كررت المذيعة في التراشق الكلامي مع الوزير؟ أم يكون الحل الوسط بالتزام الهيئة بالتعريفات والتسميات القانونية التي حددها البرلمان الذي يمثل الشعب ديمقراطياً؟
هذه التحديات لا تواجهها بلدان التلفزيون وإذاعة فيها ملك الدولة، أو حتى ما يسمى الصحافة «المستقلة» (أي التجارية أو القطاع الخاص) فيها، لأنها تستخدم التعريفات الرسمية أو الشعبوية أو كلتيهما في تعبيرات كـ«العدو» و«الجيش الوطني» و«نحن» و«هم».
وعندما تكون الوسيلة الصحافية عابرة للحدود والقارات ومستقلة غير ممولة من حكومة حزب سياسي، يصبح الأمر أكثر صعوبة (فمثلاً ماذا يعني «الديسك الخارجي» في صحيفة أو شبكة عالمية؟).
«بي بي سي» مثلاً تشير لائحة إرشاداتها الصحافية إلى «عدم الانحياز» (أي عدم تفضيل طرف على آخر) في التغطية، وهو غير «الحياد» الذي تلتزم به المدرسة الصحافية الكلاسيكية التي أنتمي إليها. والخبر الصحافي، غير عمود الرأي، فالأخير بطبعه يعبر عن رأي حتى لو كانت المفردات تغضب البعض، أما الخبر فيجب أن يكون محايداً. فمثلاً عند النشر نفكر ملياً كيف نوظف كلمات كـ«شهيد» و«إرهابي» و«أسير» و«رهائن» و«إعدام» و«قتل». وهناك منظمات وهيئات تصنفها قوانين بلاد على أنها إرهابية أو خارجة عن القانون، بينما تتعامل معها بلدان أخرى كجهات مشروعة. هذه المفردات، مثل الألغام على الطريق قد تنفجر أخلاقياً أو قانونياً لدى المتلقي فتجعل الصحافي، وبالتالي المنبر يبدو كصاحب موقف سياسي، أو يتعرض للمساءلة القانونية.
في الصحافة المكتوبة، يمكن النقل عن شخص آخر يصف مقاتليه بـ«الأبطال» أو «الشهداء»، والخصوم بـ«الإرهابيين»، فيمكن وضعها بين «قوسي النقل» عن شخص آخر، وما على الرسول إلا البلاغ، وليس مسؤولاً عن الرسالة.
لكن بالنسبة للإذاعة أو التلفزيون التي تعتمد على النطق، كيف يمكن التمييز إذا كان الشخص الذي ينقل عنه غائباً ولم يتمكن من تسجيل المفردات بصوته؟
لكن ما مسؤولية «بي بي سي» عن الأزمة الدائرة حول تغطيتها الصحافية؟
فالهيئة نفسها كانت وزعت مذكرة داخلية ببريد إلكتروني قبل خمس سنوات توجه محرري وصانعي البرامج والصحافيين إلى تغطية «التسخين الحراري» أو «التغيير المناخي» من جانب واحد فقط، وعدم السماح بمناقشة أو استضافة علماء أو خبراء «يشككون» في الاعتقاد السائد بأن الظاهرة مسؤولية النشاط الإنساني في العالم الرأسمالي.
وإذا راجع المراقب سجل تغطية الهيئة لقضايا كالإجهاض، والحركة النسوية، ومظاهرات تعطيل المرور للمطالبة بمنع حفر آبار البترول، أو إقحامها بأسئلة لا علاقة لها بجوهر الخبر، كانتهاك حقوق الإنسان عند تغطيتها لبلدان صديقة لحكومة المحافظين، بينما تتجاهل انتهاكات وتجاوزات الحقوق نفسها على الشاطئ الآخر في المنطقة، سيرى مدى عدم التزامها بلائحتها عن «عدم الانحياز».
ولذا فرغم تمسكي التام بحرية الصحافة واستقلالية هيئة كـ«بي بي سي»، فإني وعدداً من عواجيز مهنة المتاعب، غير متعاطفين معها في أزمتها مع الحكومة ومع الأطراف المنتقدة لها. فالمشكلة خلقتها «بي بي سي» لنفسها، لأنها ليست محايدة في كثير من القضايا، سواء ببراهين وأدلة من تغطيتها الانتقائية في كثير من القضايا الجغرافية والسياسة والاجتماعية، أو بإعلانها بنفسها بانحيازها لجانب واحد ـ أو رواية سياق واحدة في أخرى.
==