قد يصاب المستمع بالملل أكثر من محدثه. ذلك أن من يتحدث يُعمل ذهنه بشدة فتتزاحم الفكرة تلو الفكرة فيأخذ المتكلم مستمعه حيثما شاء في الحوار. في حين يبقى المنصتون أسرى لما يقوله محدثهم الذي يمسك بتلابيب ميكروفونه! هنا يقع المستمع في حيرة الاستمرار بالاستماع من باب الأدب أو اللجوء لسلاح مقاطعة الكلام.
ولذلك ليس من الحكمة حرمان المستمع من مداخلاته العفوية وتساؤلاته حتى يتمكن من تكملة مشوار الاستماع بأريحية.
المنصت مثل من ينتظر دوره في طابور المطعم يتضور جوعاً لكن قرار الدخول إلى المطعم (النقاش) مرتبط بإذن المتحدث أو انتباهه لإيماءاته. فهناك بالفعل من لا يسمح لك بأن تدلي بدلوك. وسواءً كان ذلك بقصد أو من غير قصد ستبقى المشكلة قائمة. ولذا كان من الحكمة متابعة لغة جسد المستمعين جميعاً علّنا نجد إشارة الرغبة في التعليق أو التأييد أو الاختلاف.
كل تلك المداخلات صحية لأنها تدفع الجميع إلى المشاركة الفاعلة في موضوع النقاش. وما أن يستأثر أحدهم في الحديث حتى تبدأ معاناة المنصتين. فإذا ضاق المنصت ذرعاً بالحوار فسوف يتحول المنصت (بكل جوارحه) إلى مجرد مستمتع (أي انتقائي في ما يسمع). فشتان بين الإنصات والاستماع. فالأول يخضع للتركيز والسكوت التام، في حين أن الاستماع قد يكون انتقائياً أو من دون تركيز مثل من يصغي إلى أغنية أو نشرة أخبار ويسمع من يثرثرون حوله.
وقد اكتشف العلماء أنه ليس المتحدث أو المحاضر وحده من يرهقه التحدث الطويل بل المنصتون كذلك يعانون. فبعد محاضرة مدتها 75 دقيقة، تبين للعلماء أن المنصتين قد بذلوا طاقة ذهنية مساوية للمتحدث طوال تلك المحاضرة، حسبما ذكر ستيفن روبنز وزميله ديفيد ديسنزو في كتابهما «أساسيات الإدارة». وأرى أن الاستئثار في الحديث مع عدم الاكتراث بنظرات أو تعابير المستمعين ربما يفاقم المشكلة.
ولذلك يقترح روبنز وزميله أربعة أركان رئيسية ليكون المرء منصتاً فعالاً، تجنباً للمعاناة التي تنشأ في الحوار وهي: التركيز بشدة على ما يتناهى إلى أسماعه وعزل نفسه عن المثيرات الخارجية المشتتة. والتعاطف empathy، والقبول acceptance، والجدية في الانتظار حتى يكتمل الحديث كلية.
ويقصد بالتعاطف تقمص الحالة الوجدانية والانهماك فيما يقال بصدق بغرض إبداء التعاطف العفوي. مشكلة المبالغة في التعاطف أنها تعطي نتائج عكسية منفرة. لأنها تتحول إلى مشهد تمثيلي سمج أو شفقة، وهي مسألة غير مريحة لمن يبوح بمكنوناته. التعاطف باختصار يعني وضع المنصت نفسه في موقع المتحدث. ينظر إلى كل شيء من زاويته. أما العقلانية والمنطق فيتطلبان النظر إلى الموضوع من زوايا عدة. وهذه هي معضلة الحوارات، فنحن نتوقع أن لحظات التعاطف هي دعوة للمنطقية أو لطلب حلول. غير أن من ينشد التعاطف يريدنا أن نفهمه وأن نرى الأمور من منظوره أولاً. بعدها ربما يتقبل شيئاً من الحلول أو العقلانية.
والقبول يقف أيضاً خلف كثير من نزاعاتنا اللانهائية. فهناك من يحدثك لكنه لا يريد أن يتقبل اختلافك (وهذا ما يزيد معاناة السامع). القبول يعني أن نصغي بكل جوارحنا من دون أحكام مسبقة ولا محاولة للتغيير. وهي ليست مسألة يسيرة، فمن البديهي أن نشعر بعدم القبول حينما نصل إلى لحظات الاختلاف بوجهات النظر. وإذا ما انشغلنا بالاستعداد لتجهيز الردود فسوف يفوتنا كثير من الحوار. وهنا تنشأ فجوات الاستيعاب.
في كثير من حواراتنا هناك من يدفع الثمن غالياً. وربما يكون منهم المستمع الذي يضطر إلى تحمل حاجة البشر للحديث في كل شيء، وينسون أو يتناسون تلك الأذن التي ترهف السمع وتحتاج إلى من يشركها في الحوار، ويحترمها، ويتعاطف معها. الحوار مثل لعبة تنس الطاولة لا يكتب لها النجاح بلاعب واحد، مهما كانت مهاراته!