دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- اعتُبر مرض التوحّد سابقًا بمثابة حالة عصبية خاصة بالذكور فقط.
بيّنت مراجعة في عام 2020، أنّ الأولاد أكثر عرضة بعشر مرات من الفتيات لتقييمات التوحّد، بينما أشارت دراسة في عام 2023، إلى أنّ ما يصل إلى 80% من الفتيات والنساء قد يتمّ تشخيصهنّ باضطراب القلق الاجتماعي، أو اضطراب الأكل، أو اضطراب الشخصية الحدّيةK قبل أن يتم تشخيصهن إصابتهن بالتوحّد.
تتناول جينا ريبون، الخبيرة في تصوير الدماغ،هذه التحيّزات والنواقص في كتابها الجديد "Off the Spectrum: Why the Science of Autism Has Failed Women and Girls".
يحثت ريبون التي تشغل أيضًا منصب الأستاذة الفخرية في التصوير العصبي المعرفي بمركز آستون للدماغ في برمنغهام، بإنجلترا، في كيفية وسبب تجاهل العلماء والاختصاصيّين للتوحّد لدى النساء والفتيات بشكل منهجي.
وجدت ريبون في مراجعة أجرتها خلال عام 2024، أنه بين أكثر من 120 دراسة فحصت نماذج الدماغ للتوحّد، اختبرت حوالي 70% من الدراسات الرجال فقط، وشملت عددًا قليلًا جدًا من النساء، لافتة إلى أنّ أقل من 10% من 4000 مشارك في تلك الدراسات كانوا من النساء.
وأعربت ريبون عن اندهاشها لاكتشاف مدى سوء فهمها وفهم زملائها للطبيعة الفعلية للتوحّد، لدى الفتيات والنساء.

وفي حديث لها مع CNN، تناولت ريبون موضوع التوحّد لدى الفتيات والنساء، والتحدّيات التي تواجه التشخيصات الحالية، وكيف يمكن للاختصاصيّين في المجال الطبي التفكير بطريقة مختلفة عند فحص الحالة من دون تحيز.
CNN: ما الذي دفعك للبحث في التوحّد لدى الفتيات؟
جينا ريبون: حتى وقت قريب، كان هناك اعتقاد قوي بأنّ التوحّد مشكلة خاصة بالذكور. ونتيجة لذلك، نشأت صناعة كبيرة حول تشخيص التوحد لتمكيننا من تحديد ما إذا كان الطفل يعاني من التوحد. لكنهم كانوا ينظرون فقط إلى السلوكيات التي كانت مميزة لدى الأولاد. فيما تم إهمال أي سلوكيات مماثلة لدى الفتيات.
بالنسبة لعالمة أعصاب مثلي كنت أرغب بدراسة التوحد لدى الإناث، لم أتمكن من العثور على أي فتاة تم تشخيصها بالتوحد. وتجذر هذا الأمر في الوعي المجتمعي على أنه: "حسنًا، هذه مشكلة ذكورية، لذلك من الأفضل أن نركز على الذكور".
CNN: كيف أصبح النظام متحيزًا إلى هذا الحد؟
جينا ريبون: ما من علامة حيوية للتوحد، إذ لا يوجد أشعة سينية سهلة، أو اختبار مادي يمكننا استخدامه لتشخيص التوحد. عوض ذلك، ثمة مجموعة واسعة من السلوكيات المختلفة التي تم تحديدها على مر السنين لتميّيز الأطفال المصابين بالتوحد. (لكن) كل ذلك يعتمد على ما يبدو عليه الأمر لدى الأولاد الذكور.
CNN: لِمَ يصعب على الخبراء تحديد التوحّد لدى الفتيات؟
جينا ريبون: هناك ما يُعرف بانحياز التأكيد الكلاسيكي، أي الميل لتفسير الأدلّة الجديدة كدليل يؤكد المعتقدات الحالية.
قدّم الباحثون سيناريوهات افتراضية متطابقة للمعلّمين: يظهر هذا الطفل هذه الأنواع من المشاكل في الفصل الدراسي، فهل تعتقد أن هذا الطفل قد يكون مصابًا بالتوحّد؟ هل تعتقد أن هذا الطفل قد يحتاج إلى دعم خاص؟ يميل المعلمون للإجابة بـ "نعم" أكثر على فكرة أن الطفل قد يكون مصابًا بالتوحّد ويحتاج إلى دعم إذا كان الطفل ذكرًا، مقارنة بالفتاة.
تظهر الفروقات السلوكية لدى الأطفال المصابين بالتوحد في وقت مبكر. هذه هي اللحظات التي يجب أن يكون فيها المعلمون الذين لديهم خبرة واسعة مع مجموعة متنوعة من الأطفال، لديهم القدرة على القول، هذا النوع من السلوك غير معتاد. أعتقد أن هذا الطفل يجب أن يخضع لفحوصات أكثر.
عوض ذلك، إذا كان السلوك غير معتاد وكان الطفل ولدًا، يُعتبر ما يعاني منه توحدًا، لكن إذا كان السلوك غير معتاد وكان الطفل فتاة، قد تُصنف بأنها خجولة، أو تعاني من قلق اجتماعي.
هناك أدلة واضحة على أن الفتيات يحاولن إخفاء أو تمويه مشاكلهن. يحدث ذلك بوقت مبكر، في سن الرابعة أو الخامسة. إذا طرحت عليهن الأسئلة بالطريقة الصحيحة، سيُجبن على السؤال بالقول، "الأطفال الآخرون في الفصل يعتقدون أنني غريبة. أحاول أن أعرف لماذا يعتقدون أنني غريبة، وأحاول أن أتصرف بطريقة غير غريبة".
هذا ليس بأمر جديد. في الثمانينيات، قالت الباحثة الدكتورة لورنا وينغ، التي كانت مسؤولة جزئيًا عن توسيع مفهوم التوحّد، "ربما الفتيات فقط أفضل في إخفاء مشاكلهنّ"، و"ربما الفتيات يتعلّمن التصرف بشكل أفضل في وقت مبكر".
CNN: ماذا يمكن أن يعني التشخيص لامرأة شابة كانت تعاني من التوحد؟
جينا ريبون: جميع النساء اللواتي تحدثت إليهنّ أوضحن أنّ رد فعلهن الأول والأقوى عند الحصول على تشخيص التوحّد كان الشعور بالراحة، لأنه فجأة جعل حياتهن أكثر منطقية. بالنسبة للنساء الأكبر سنًا، كان ذلك غالبًا ما يرافقه شعور بالندم، كيف كانت حياتهن ستكون مختلفة لو عرفن في وقت مبكر، لا سيما الفتيات اللواتي كنّ في حاجة ماسة للانتماء.
ما لفت انتباهي مدى التناقض بين هذا الواقع والنظرة إلى التوحد كعزلة، وكأن الأفراد المصابين بالتوحد غير مهتمين بالتواصل الاجتماعي. بالنسبة للفتيات اللواتي يُعانين من التوجد، قد يكاد الأمر يكون عكس ذلك، إذ أنهن بحاجة ماسة للتواصل الاجتماعي، لكنهنّ يفتقرن إلى ما يمكن أن نسميه "الغريزة الاجتماعية"، أي معرفة كيفية التصرّف في المواقف الاجتماعية.

CNN: كيف يمكن للخبراء تعلم تشخيص التوحد لدى الفتيات في سن مبكرة؟
جينا ريبون: أحد الأمور التي لفتت انتباهي تتجسد بفكرة فرط الحساسية للمشاكل الحسية مثل الملابس الخشنة، والأضواء الساطعة، والروائح، وما إلى ذلك، وهي سمة أكثر تميزًا لدى الفتيات اللواتي يعانين من التوحد مقارنةً بالأولاد. وهذه السمة فقط بدأت تظهر بالتشخيص. وشملها آخر إصدار من "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية" (DSM-5-TR).
رغم أن المشاكل الحسية كانت سمة مميزة للتوحد بشكل عام، وغالبًا ما وُجدت تقارير عن الأطفال الذين يعانون من التوحد، ويكرهون الأصوات العالية، أو الأضواء الساطعة، أو ما شابه، إلا أن ذلك لم يثبت كسمة تشخيصية حتى وقت قريب.
من المهم زيادة الوعي والقبول بأن الأطفال الذين يعانون من التوحد من الجنسين يجب أن يُسمح لهم بالحصول على تسهيلات خاصة في المدرسة، مثل إجراء الاختبارات في غرفة منفصلة، أو ارتداء سماعات الرأس. هذا أمر بالغ الأهمية.
بالنسبة للفتيات اللواتي يُعانين من التوحد، فإن هؤلاء قد يكنّ حساسات للغاية تجاه ما يشعرن به كرفض اجتماعي، من المهم أيضًا تعليم جميع الأطفال كيفية التصرف بلطف. كانت بعض أكثر المقابلات حزناً التي أجريتها مع فتيات صغيرات اعتقدن أن الناس يظنون أنهنّ غريبات الأطوار.
CNN: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الأدوية هنا؟
جينا ريبون: أنا لست من محبي الحلول الدوائية للأطفال الصغار، جزئياً لأن هذه فترة يكون فيها دماغنا مرنًا للغاية. في الوقت ذاته، تُعتبر اضطرابات النوم واضطرابات الجهاز الهضمي شائعة بين الأطفال الذين يعانون من التوحد، وإذا تُركت من دون علاج، يمكن أن تؤثر على الأنشطة الاجتماعية.
كما أن الكثير من الصعوبات السلوكية الناتجة عن التوحد لا تُعالج بالدواء، بل بتعليم الأطفال كيفية تخطي الشعور بالقلق، والتعامل مع المواقف الاجتماعية.