ماذا يصنع من لا يقدر على الزواج مع كثرة الفتن

منذ 2 سنوات 300

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:

فمن أعظم الحقائق التي يقررها القرآن العظيم، ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد؛ أن كل من عاد إلى هدى الله، وسعى لها سعيها، وجاهد فيها، وصبر على فتنة النفس وعلى فتنة الناس:- أن الله يوفقه للهداية، ويعينه عليها، ولا يضيع إيمانه، ولا يتركه وحده، ويجازيه خير الجزاء، ويثبته على صراطه المستقيم؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال سبحانه: { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]، فيقضي - سبحانه- بالهدى لمن ينيب إليه، ولا يُضل منيباً ولا مستجيبًا.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]، فهداهم أولاً للإيمان، فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية، ونظير هذا قوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان ما يعطيهم من لنور الذي يفرقون به بين الحق والباطل والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل، فُسر الفرقان بهذا وبهذا، وقال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31]؛ قاله ابن القيم.

فآيات الله الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة، ولابدّ أن يجتبيه الحق إليه وهو الجذب، لكن قد يكون ابتداء السلوك قصد العبد وعمله وعبادته ومجاهدة هواه، وقد يمن عليه ابتداءً باجتبائه إليه وإنابته إلى مولاه وإعراضه عما سواه.

وأيضًا فإن الله تعالى: وعد كل من اعتصم به وثبت على الحق أن يعصمه من الشيطان؛ فقال سبحانه:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون}[النحل: 98]، 100]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر: 42]، وقال: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 64، 65]، والآيات في هذا المعنى كثير، وجميعها يصور المعركة المستمرة بين الشيطان والمسلم، والتي لا يهدأ أوارها ولم تضع أوزارها منذ خلق آدم عليه السلام، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.

فاستعذ بالله من مكائد الشيطان وتلبيسه، وتزود بالعمل الصالح والافتقار إلى الله تعالى وصدق اللجوء إليه.

هذا؛ ومِمَّا يُعِينُ على الثبات على التوبة والبعد عن تلك العادة المحرمة أمور:

منها: صدق اللجوء إلى الله، والجد في الهرب إليه سبحانه وتعالى، وكثرة الضراعة، والدعاء بالأدعية المأثورة: ((رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا، لَكَ ذَاكِرًا، لَكَ رَاهِبًا، لَكَ مِطْوَاعًا إِلَيْكَ، مُخْبِتًا، أَوْ مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي))، و((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))، و((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ؛ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا؛ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ))، و((اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي))، و((اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي)).

وعلى قدر صدق الطلب، وقوة اللجإ، وخلع الحول والقوة، والافتقار إلى الله عزّ وجلّ، تكون الإجابة؛ كما قال الله تَعَالَى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61] ا

ومنها: إدمان ذكر الله عز وجل؛ فإنه ذكر الله يقوى القلب والبدن، ويزيد اليقين في الله تعالى والتوكل عليه، ومن أعظمه المواظبة على قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإن بها تكابد الأهوال وتنال رفيع الدرجات.

ومنا: الإكثار من فعل الصالحات، فإنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات، ومن ذلك كثرةُ الاستغفار ووصلاة النوافل والذِّكْر والدُّعاء.

ومنها: البُعْد عن دواعي المعصية وأسبابِها كمُفارقة موضِع، والبحث عن رافقة من الأَخْيَارِ والصَّالحين، وتعلُّم العلم النافع والحرص على حضور مَجالس العلم، وأن تَملأَ وقتَك بِما يُفِيدُ حتَّى لا يَجِدَ الشيطانُ لديْكَ فراغًا.

ومنها: النظر في العواق وهو أعظم ما يعين على الثبات على الحق، وقد لخصة الإمام ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" فقال (ص: 378): "متى تكامل العقل؛ فقدت لذة الدنيا، فتضاءل الجسم، وقوي السقم، واشتد الحزن؛ لأن العقل كلما تلمح العواقب، أعرض عن الدنيا، والتفت إلى ما تلمح، ولا لذة عنده بشيءٍ من العاجل، وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الآخرة، ولا غفلة لكامل العقل، ولهذا لا يقدر على مخالطة الخلق؛ لأنهم كأنهم من غير جنسه".

وقال (ص: 486): "إنما فضل العقل بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل؛ فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها، فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد! والبطال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم وكسب المال، فإذا كبر فسئل عن علم؛ لم يدر، وإذا احتاج، سأل؛ فذل، فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا. وكذلك شارب الخمر، يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة! وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد".

ومنها الصبر عن المحرمات، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها؛ قال - تعالى -: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]؛ و"الاستعفاف" هو ترك المنهي عنه؛ كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من يستعفِفْ يعفَّه الله، ومن يستغن يغنِهِ الله، ومن يتصبرْ يصبِّرْه الله، وما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر))، وتحقيق الصبر يحتاج إلى الاستعانة بالله وأعمال صالحة وأعظمها الصلاة، وكثرةُ الاستغفار والذِّكْر؛ قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، "فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب، وهو ذكر الله"؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

ومنها: البُعْد عن دواعي المعصية وأسبابِها، وصرْف دواعي القلب، وقطع خطرات النفس، وترك التفكير في المثيرات، وصرف التفكير إلى ما ينفع، وتخفيف الشهوة بتَجفيف منابع المعصِية، بغض البصر، والبعد عن مشاهدة الأفلام والمسلسلات، ولقاء الأجانب، وغير ذلك، مما لا يجوز شرعًا، مع تجنب الوحدة، والاختلاط بالأهل، وأهل الصلاح.

ومنها: البعد عن قراءة القصص المثيرة للشهوة، والأخبار الهابطة؛ لما يثير من غرائز كامنة، ويؤجج من نيران الشهوة، كما أنه يكدر القلب.

ومنها، إدمان الصوم وسرده؛ وهذه وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم – حيث قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ متفق عليه.

ومنها: استشعار رقابة الله تعالى في جميع الشؤون؛ قال الله – تعالى -: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]، وقال – تعالى -: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14].

ومنها: تقوية الخوف من الله - عزَّ وجلَّ – وذلك باستشعار عظمته تعالى، وأنه يعلمُ سرَّ العبد وجَهْرِه؛ فالخوف من الله هو الحاجز الصُلْب أمام دَفَعَات الهوى العنيفة، وقلَّ أن يثبَتَ غيرُ هذا الحاجز أمام دَفَعَات الهوى، كما قال صاحب "الظِّلال".

فصاحبُ الخوْف: يلتجئ إلى الهرب والإمساك؛ فمن علم أنَّ الحَفَظَة الكاتبين يراقبون أعماله، وأنَّه حيثما حلَّ مُتَابَعٌ، وأنَّ طريق الهروب من الله مسدودٌ، ولا حيلة له إلا الاستسلام والانقياد والإقبال على طاعة الله، والاستفادة من المهلة الممنوحة له؛ إذ لا يدري متى يتخطَّفه الموتُ، ويصير إلى ما قدَّم - فلا يحتقر المعاصي، ولا يأمن من مَكْرَ الله تعالى؛ قال عزَّ مِنْ قائل: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف:99]،، والله أعلم.