اللاهوت الإسلامي الجدلي في نقد الغرب

منذ 1 يوم 32

تتبعتُ أثر عنوان كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق) في عناوين مقالات الإسلاميين بعد استعمال سيد قطب لعبارة «مفترق الطرق» في عنوان المقال الأخير من مقالات كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) الصادر عام 1949، فعثرت عليها في هذه العناوين:

«العالم على مفترق الطرق» وهي خطبة مرتجلة، كما يقول عنها صاحبها أبو الحسن الندوي، ألقاها في «دار الشبان المسلمين» بالقاهرة، في أثناء زيارته لمصر عام 1951.

ما من شك في أن أبا الحسن الندوي يعرف عبارة «مفترق الطرق» من اللغة الإنجليزية مباشرة التي يتقن القراءة بها، ولكنه استعملها لمكانة كتاب محمد أسد العالية في نفسه، وتأثيره الكبير في فكره الإسلامي الأصولي.

ففي كتاب من كتبه المتأخرة، وهو كتاب (شخصيات وكتب)، تحدث عن وقع قراءة كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) في نفسه؛ إذ نزلت –كما قال– إلى القرار، ومسَّت شغاف القلب. فمن خلال هذا الكتاب –كما أكمل قوله– اطَّلع على نقائص الغرب الحقيقية، وأدرك طبيعة الثقافة الغربية، واستحالة انسجامها مع الثقافة الإسلامية، وعرف التناقص الجذري المبدئي بين هاتين الثقافتين بصورة واضحة وضَّاءة، وبعمق وإمعان.

وفي موضع آخر من كتابه، قال عن صلته بكتاب محمد أسد: «وظل يطالع كتب المعاصرين وكتاباتهم، فوجد هذا اللون يغلب عليه الطابع العلمي في كتابات مسلم جديد هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي، قرأت للأول في الإنجليزية كتابه المشهور (الإسلام على مفترق الطرق)، وقرأت للثاني مقالاته في مجلة (ترجمان القرآن) في نقد الحضارة الغربية وأسسها، ثم جمعت في كتاب سمَّاه (تنقيحات) فرأيتهما يتناولان الحضارة كقضية علمية تصلح للنقاش والبحث، أو كجثة تُعرض للتشريح في كلية الطب والجراحة، في القضايا العلمية والاجتماعية والحضارية، وفي الدراسات المقارنة بين الحضارات والديانات والنظريات والفلسفات عن ثقة واعتماد، وبقوة واعتزاز».

قبل أن يتحدث أبو الحسن الندوي عن هذا الأثر الأسدي، كان أحمد أمين ناشر كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) في «لجنة التأليف والترجمة والنشر» قد انتبه لهذا الأمر في المقدمة القصيرة التي كتبها لهذا الكتاب. وهي المقدمة التي حذفها أبو الحسن الندوي ابتداءً من الطبعة الثانية لكتابه، بحجة أنها مقدمة باردة، أضعفت من قيمة الكتاب!

قال أحمد أمين في مقدمته القصيرة لهذا الكتاب التي أرَّخ لكتابتها بـ27 أغسطس (آب) سنة 1950: «والكتاب يدور حول فكرة جليلة، وهي محاربة ما في نفوس المسلمين من مركب النقص، بإحساسهم بضعفهم وانحطاط نفوسهم، وإعزازهم للمدينة الغربية وإعلاء شأنها أكثر مما تستحق؛ فقاوم المؤلف الفاضل هذه الفكرة وأفهمهم أنهم يجب أن يعتزوا بدينهم؛ وأفهم الغربيين أنهم ينقصهم روح الإسلام ليسودهم الهدوء والطمأنينة والسلام؛ وهي فكرة جليلة تستحق كل الإعجاب.

وقد أذكرني هذا الكتاب ومعالجته لهذه الفكرة بكتاب آخر لمستشرق نمساوي مسلم، سماه (الإسلام في مفترق الطرق)، وهو –أيضاً– يدق على هذا الوتر، فعسى أن تتابع الكتب من هذا القبيل...».

عنوان كتاب محمد أسد –كما تعرفون– (الإسلام على مفترق الطرق)، وليس (الإسلام في مفترق الطرق). وهذا الخطأ من أحمد أمين كان سبق قلم. كما أن محمد أسد في هذا الكتاب لا يعد نفسه مستشرقاً، وقد هاجم فيه الاستشراق والمستشرقين عن بكرة أبيهم في كل زمان وفي كل مكان.

«إنجلترا والعالم الإسلامي: مفترق الطرق». وهو عنوان مقال لمحمد ضياء الدين الريس، نشر في مجلة (المسلمون) الإخوانية بالقاهرة، بتاريخ 30 يوليو (تموز) 1952.

محمد ضياء الدين الريس هو المؤرخ البارز في مجال التاريخ الإسلامي.

«العالم الإسلامي على مفترق الطرق». وهو مقال لمحمد الحسني بن عبد العلي الحسني، نشر في تلك المجلة بتاريخ 9 أبريل (نيسان) 1954. هذا الكاتب الإسلامي ابن أخي أبي الحسن الندوي وتلميذ له. في منتصف السبعينات الميلادية جمع مقالات كتبها ما بين عامي 1954 و1975 في كتاب كان عنوانه (الإسلام الممتحن)، وكان أول مقال فيه المقال المشار إليه وآخر مقال فيه، كان عنوانه «حسن البنا في محراب التاريخ الإسلامي».

«الإسلام في مفترق الطرق». هذا عنوان كتاب للطبيب والأديب والمناضل الجزائري أحمد عروة، صدر باللغة الفرنسية عام 1969، وترجمه إلى اللغة العربية فيلسوف «الجوَّانية» عثمان أمين، في منتصف السبعينات الميلادية.

أحمد عروة صاحب توجه إسلامي، له مجموعة من الكتب توزعت ما بين الطب والبيئة والأدب والفكر الإسلامي. وعدد من الأبحاث العلمية المختصة.

ومع أنه صاحب توجه إسلامي فإنه ليس لاسمه وكتبه وأبحاثه حضور في كتب الإسلاميين.

لم يسبق لي أن اطلعت على عمل من أعماله سوى هذا الكتاب، والذي اطلعت عليه لغرض شكلي، وهو تتبع ورود عبارة «مفترق الطرق» في عناوين مقالات الإسلاميين ومحاضراتهم.

من اطلاعي على كتابه هذا، رأيت أن خطابه الإسلامي مختلف عن المعهود في خطاب الإسلاميين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم.

ولاحظت أن دعوته في هذا الكتاب لإحياء الإسلام (أو النهضة الإسلامية) ومجادلته لقضايا في الفكر الغربي -مثل العلمانية والماركسية وغيرهما- ينطبق عليهما ما يمكن أن يسمى «علم كلام معاصر» رصيناً وهادئاً ومستوعباً ومنفتحاً.

وهذا سبب من الأسباب، أو لعله السبب الرئيس الذي جعل كتبه وأبحاثه يغيب ذكرها في كتب الإسلاميين.

الكاتب الجزائري ناصر جابي في مقال له عنوانه «مسيرة أحمد عروة التي لخصت تاريخ الجزائر»، منشور في جريدة «القدس العربي» قدم أسباباً أخرى، مدارها الحالة الأصولية والحالة الفرنكفونية في الجزائر. ومن أراد أن يعرف الأسباب التي قدمها، فليرجع إلى مقاله.

كتاب أحمد عروة لا يتشابه مع كتاب محمد أسد إلا في العنوان. فأفكار أحمد عروة الإسلامية المنفتحة مختلفة جداً عن أفكار محمد أسد الإسلامية الأصولية.

لم يبقَ من الملحوظات التي سقتها في مقالات سابقة، إنشاءً على ملحوظتَي يوسف الشويري وشريف يونس الخاصتين بنقد سيد قطب للحضارة الغربية سوى القليل، وسأوجز تقديمها قدر المستطاع!

في أول شهر من عام 1948 صدرت ترجمة كتاب (الإسلام والنظام العالمي الجديد) تأليف مولانا محمد علي، من الإنجليزية إلى العربية. هذا الكتاب ترجمه إلى العربية أحمد جودة السحار، وترجمَتُه إلى العربية صدرت عن «لجنة النشر للجامعيين».

الكتاب أصلاً رسالة كتبها مولانا محمد علي باللغة الأردية عام 1942، وكان عنوانها (نظام عالمي جديد)، ثم ترجمها هو بالعنوان نفسه إلى الإنجليزية عام 1944. ومولانا محمد علي هو مترجم القرآن الشهير إلى اللغة الإنجليزية.

بتاريخ 4 مارس (آذار) 1946، نشرت مجلة (الرسالة) مقالاً لعباس محمود العقاد، يحتفي فيه بهذا الكتاب، وكان عنوان مقاله (الإسلام والنظام العالمي الجديد).

استهل العقاد تعريفه بموضوع الكتاب بتعريفٍ بالدعوة القاديانية وبالدعوة الأحمدية اللاهورية، وإن لم يسمِّ في هذا المقال الدعوة الأخيرة باسمها الحقيقي.

مناسبة كتابته لهذا الاستهلال، أن مؤلف كتاب (نظام عالمي جديد) مولانا محمد علي بيَّن في مقدمته أن الكتاب من منشورات الدعوة الأحمدية لإشاعة الإسلام.

الدعوة الأحمدية اللاهورية –بتعريف مختصر– هي تحوير ملطَّف ومخاتل للدعوة القاديانية.

ظني أن الذي لفت نظر مشروع «لجنة النشر للجامعيين»، وتحديداً عبد الحميد جودة السحار إلى اختيار كتاب مولانا محمد علي (نظام عالمي جديد) لترجمته إلى اللغة العربية، هو مقال العقاد عنه. الذي قادني إلى هذا الظن أن كلمة «الإسلام» غير موجودة في عنوان الكتاب؛ لا باللغة الإنجليزية ولا باللغة الأردية، فهي موجودة –فقط– في عنوان مقال العقاد.

وغير بعيد أن الذي أشار على عبد الحميد باختياره للترجمة فكلَّف أخاه أحمد بذلك، هو سيد قطب الذي في التاريخ الذي نُشر فيه مقال العقاد، كان يعمل على إعداد كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام).

صلة سيد قطب بمشروع «لجنة النشر للجامعيين»، هي صلة منافع متبادلة بينه وبين بعض أعضاء هذا المشروع، وعلى رأسهم مدير المشروع والمسؤول عنه عبد الحميد جودة السحار.

هذا المشروع أسسه عبد الحميد جودة السحار عام 1943، بدعم من أخيه سعيد صاحب «مكتبة مصر». فـ«مكتبة مصر» كانت هي الناشر لسلسلة كتب هذا المشروع.

من أبرز أعضاء هذا المشروع: نجيب محفوظ، وعادل كامل، وعلي أحمد باكثير، وأمين يوسف غراب، ومحمد عبد الحليم عبد الله.

كتاب مولانا محمد علي –حسب ترجمة عنوانه إلى اللغة العربية– (الإسلام والنظام العالمي الجديد) هو ثاني مصدر تلقف سيد قطب من خلاله فكر «الأصولية الإسلامية»، وكان مصدره الأول فيها كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق). ومن مفردات الخطاب الإسلامي الأصولي، نقد الحضارة الغربية. وهو نقد يقوم على لاهوت جدلي. وبما أنه يمكن تصنيفه على هذا النحو المنهجي، فهو يتسم بما يتسم به هذا النوع من الجدل من سمات، كالتحامل والمغالطة والحدَّة والعنف والعدوانية.

نقد الحضارة الغربية في الخطاب الإسلامي الأصولي يقترن بنقد الديانة المسيحية، وكتابا محمد أسد ومولانا محمد علي مملوآن بنقد الغرب العلماني وبنقد الدين المسيحي.

منطلقات مولانا محمد علي في نقد الديانة المسيحية تختلف عن منطلقات محمد أسد في نقده لها، فهي –في الأساس– عند مولانا محمد علي منطلقات «قاديانية» أكثر من كونها منطلقات «إسلامية»، كما هي عند محمد أسد.

سيد قطب استفاد في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أيما استفادة من كتابيهما في نقد هذين الشأنين.

كثرة من الباحثين يهملون أثر هذين الكتابين في نشأة فكر «الأصولية الإسلامية» عند سيد قطب، ويركزون على أثر أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي، مع أن هذين الرجلين يمثلان المرحلة التالية والأخيرة في بناء هذا الصنف من الفكر عنده، بناءً كاملاً وتاماً. وللحديث بقية.