كيف يصل المسلم لمرتبة الإحسان

منذ 1 يوم 34

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أتمنى توضيح كيف يصل المسلم لمرتبة الإحسان. اي أن يعبد الله كأنه يراه.

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فإن مرتبة الإحسان – منزلة – هي أعلى مراتب الدين؛ كما في حديث جبريل وقد سأله عن الإسلام ثم الإيمان ثم سأله عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ولا تتحقق هذه المنزلة العظيمة إلا بتقوية منزلة المراقبة لله سبحانه؛ قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235] {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } [الأحزاب: 52]، وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [الحج: 70]، { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] والآيات بهذا المعنى كثيرة جدًا.

 جاء في "مدارج السالكين" لشيخ الإسلام ابن القيم (2/ 65): "المراقبة تعريفها: دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله. وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين. والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات. فكيف بحال المريدين؟ فكيف بحال العارفين؟ .

وقيل: من راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه.

وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير.

وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله". اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/ 622): " فقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قد قيل: إن الإحسان هو الإخلاص، والتحقيق: أن الإحسان يتناول الإخلاص وغيره، والإحسان يجمع كمال الإخلاص لله، ويجمع الإتيان بالفعل الحسن الذي يحبه الله؛ قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 112]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، فذكر إحسان الدين أولاً، ثم ذكر الإحسان ثانيا فإحسان الدين هو - والله أعلم - الإحسان المسؤول عنه في حديث جبريل؛ فإنه سأله عن الإسلام والإيمان".

ثم ذكر سبل تحصيل ذلك فقال مجموع الفتاوى (22/ 605- 607): "والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضي وضعف الشاغل.

 أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائمًا فإنما يناجي ربه. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان. والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وفي حديث آخر أنه قال: "أرحنا يا بلال بالصلاة"، ولم يقل: أرحنا منها. وفي أثر آخر: "ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهمومًا حتى يقوم إلى الصلاة"، أو كلام يقارب هذا.

 فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيمًا، ويقوى ذلك كلما ازداد العبد تدبرًا للقرآن، وفهما، ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته، واشتغاله به بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب؛ فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به ويلّتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله. ومتى كان للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكًا لا صلاح معه، ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه؛ ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه؛ ولهذا يروى: أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الكتب الأربعة، وجمع الكتب الأربعة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ونظير ذلك قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]، وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله".

 وأما زوال العارض: فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه؛ فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها". اهـ. مختصرًا.

هذا؛ والنبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إلى أعلى المقامات، فإن عجز العبد عنه= حط إلى المقام الوسط، كما قال: "اعبد الله كأنك تراه"، فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فحطه عند العجز عن المقام الأول إلى المقام الثاني، وهو العلم باطلاع الله عليه ورؤيته له، ومشاهدته لعبده في الملأ والخلاء... فرفعه إلى أعلى المقامات، ثم رده إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى، فالأول: مقام الإحسان، والذي حطه إليه: مقام الإيمان، وليس دون ذلك إلا مقام الخسران. قاله ابن القيم المدارج (2/ 209).

هذا؛ والله أعلم.

  • 0
  • 0
  • 12