كيف تعمل الثقافة الكسول؟

منذ 1 سنة 308

تعرَّضتُ في مقال الأسبوع الماضي لما ظننته دوراً محورياً للثقافة العامة في تحفيز النهوض الاقتصادي أو تثبيطه. وأشرت باختصار إلى رؤية اثنين من الاقتصاديين المعروفين على المستوى العالمي. لكن بدا لي في الأيام التالية لنشر المقال أن بعض القراء صرفوا هذه الرؤية إلى معنى معاكس، مع أنه يبدو –في الظاهر- موافقاً لها. وقد ذكّرني أستاذنا د. محمد الرميحي بمقالة سابقة له، عالجت ذات المسألة من زاوية أوسع. والدكتور الرميحي مفكر سياسي معروف، وأعدّه أبرز الخبراء في قضايا السياسة والتنمية في الخليج العربي.
تحدَّث الرميحي عن السمات البارزة للبيئة الاجتماعية المثبطة للنهضة، والعوامل التي تسببت في التعثر أو النكوص مرة بعد أخرى، وهي جميعاً ذات صلة بالثقافة السائدة. ويهمني في هذه الكتابة العامل المذكور أعلاه، أي التصريف الآيديولوجي للمشكلات، على النحو الذي ظهر في نقاشات الأسبوع الماضي.
والمقصود بالتصريف الآيديولوجي هو تفسير ظواهر اجتماعية أو تاريخية بناءً على قربها أو بعدها عن مقولات آيديولوجية معينة، أو إرجاعها إلى التفسيرات الخاصة بتلك الآيديولوجيا. هذا يتضمن -بالضرورة– إغفال العوامل المساهمة فعلياً في تكوين تلك الظواهر وتفسيرها العلمي.
من ذلك مثلاً ما وصفه د. الرميحي بالغلوّ الاقتصادي، أي التفسير الماركسي الذي يُرجع كل حراك حيوي إلى عوامل اقتصادية، بما فيها الثقافة السائدة ومنظومات القيم والعلاقات الداخلية، بل حتى الفكر المدرسي والآداب والفنون، التي عدّها الماركسيون واجهة خارجية للبنية التحتية للنظام الاجتماعي، أي الاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج. يقول الرميحي إن هذا التصريف قد حوّل الفكر إلى نوع من ميكانيكية اقتصادية، بدل أن يُعرف كنشاط حيوي قادر على أن يكون مستقلاً، وبالتالي ناقداً للوضع الراهن ومشيراً إلى المستقبل.
وشبيهٌ للغلوّ الاقتصادي، لاحظ الرميحي ما وصفه بالغلو السياسي في التيار القومي، الذي عدّ الوحدة العربية شرطاً وحيداً أو أساسياً لنجاح التنمية الاقتصادية، ثم أغفل أي عامل لتحقيق الوحدة غير التغيير في النخب السياسية، أي إنه عدّ هذا التغيير تمهيداً ضمنياً لتحقيق التنمية. وقد رأينا في التجارب العربية كثرة التحولات في النخب، بشكل طبيعي أو قسري، وكيف أن هذه التحولات أفضت إلى المزيد من الشقاق والفشل، بدل الوحدة أو النمو. نعلم بطبيعة الحال أن المدافعين عن الرؤية القومية سيشترطون نوعاً خاصاً من التغيير، لكنّ هذا أقرب إلى «شرط يوتوبي» منه إلى مطالعة واقعية في التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها عالم اليوم.
ويقال الشيء نفسه عن تفسير التيار الديني لمشكلات التخلف السياسي والاجتماعي، التي عدّها انعكاسا للبعد عن الدين الحنيف. وبناءً عليه عدّ تحكيم للشريعة حلاً حاسماً وفورياً لتلك المشكلات. ونذكر جميعاً شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعه التيار الديني في مصر والسودان. ثم رأينا مصائر الحل السوداني في الفترة بين 1989 و2019، فضلاً عمّا جرى في أفغانستان وإيران، مما لا يخفى على اللبيب.
حشر الحياة في عباءة الاقتصاد عند الماركسيين، مثل ربط القوميين للتنمية بالوحدة العربية، وربط الإسلاميين للنهضة بالعودة إلى الدين الحنيف، كلها تصريفات آيديولوجية، بمعنى أنها تنطوي على إغفالٍ للوقائع القائمة وإلغاءٍ لدور العلم الوصفي والتفسيري، وإحالة الواقع بقضه وقضيضه إلى صندوق المحفوظات. في هذا الصندوق لا توجد حلول، بل قوالب وعباءات قادرة على تأطير كل شيء وتغطية كل شيء، لكنها ليست قادرة على علاج شيء.
علاج المشكلات كلها، صغيرها وكبيرها، يبدأ بفهم الواقع واستعمال العلم في تفسيره والبحث عن علاجاته. وقد رأينا أن أولى مشكلاتنا، بل ربما أخطرها، هي هذه الثقافة الكسيحة، التي تميل بشدة للتفسيرات الجاهزة والمعلبة، بدل التفكير المتأني واستعمال مناهج العلم في فهم الواقع ومآلاته وعلاجاته.