تستعد حكومات الدول الأعضاء بمنظمة الصحة العالمية البالغ عددها 194 دولة للدخول في جولة شبه نهائية، الاثنين 29 أبريل (نيسان) الحالي، ولمدة أسبوعين في محاولة أخيرة لتقريب وجهات النظر والتوصل إلى نص تقبله كل الدول بشأن اتفاقية جديدة لمكافحة الأوبئة. وقد بدأت المفاوضات على هذه الاتفاقية عام 2021 ومرت بعدة مراحل تفاوضية، ولكن مع الأسف لا تزال هناك بعض المسائل الخلافية التي تشكل اهتماماً لطرفي المفاوضات؛ الدول النامية ذات القدرات الضعيفة في المجال الصحي والدول المتقدمة، وكلتاهما في حاجة إلى رفع قدرة أنظمتها الصحية على التأهب والاستعداد والصمود في مواجهة الأوبئة التي سيبتلى العالم بها عاجلاً أم آجلاً، ولنا في تجربة وباء كورونا عام 2021 العبرة، حيث لم تكن لدى العالم آليات قائمة للتعامل مع أوبئة العصر الحديث وسرعة انتشارها مع زيادة حركة الأفراد والتنقل وسرعة العدوى بها، وقد حصد وباء كورونا أكثر من 7 ملايين شخص، منهم أقارب وأصدقاء لنا كثيرون.
ففي حين ترى الدول النامية أن على العالم المتقدم تقديم الأمصال والعلاجات اللازمة في حالة انتشار وباء ما بما لديه وشركاته من قدرة تصنيعية لمثل هذه المستحضرات الطبية التي باتت تتطلب قدراً عالياً من التكنولوجيا، ليس متوفراً حتى لدى الدول النامية ذات القدرات التصنيعية في المجال الطبي، ومنها الهند والبرازيل ومصر وكولومبيا وغيرها، فإن الدول المتقدمة ترى أن مسؤوليتها الرئيسية تكمن أمام مواطنيها وتوفير الأمصال لهم بسرعة وبالكميات المطلوبة، وهي معضلة حقيقية. ولكن إذا كانت الدول المتقدمة يمكنها غلق حدودها أمام الهجرة وانتقال الأفراد، كما يمكنها فرض إجراءات حمائية تجارية أمام بعض صادرات الدول النامية كالسلع الزراعية مثلاً، فإنه في المجال الصحي يستحيل أن تنأى بنفسها عن وصول أي وباء إلى أراضيها وسيحمله مواطنوها قبل الزائرين. ولذلك فالتعامل مع حجم التعاون الدولي المطلوب في حال الأوبئة يجب أن يتخلى عن النظرة التقليدية من مانح ومتلقٍ، وممن يمتلك الأموال والتكنولوجيا ومن ينتظرها. فالكل في قارب واحد هنا. بل إنني أقول إن الاستثمار في منع الأوبئة قبل استفحالها لهو أرحم كثيراً وأقل تكلفة من الانتظار حتى يصل الوباء إلى أراضيك... فالوقاية خير من العلاج.
وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن التكلفة الاقتصادية لوباء كورونا تخطت 16 تريليون دولار أي بما يوازى 90 في المائة من حجم الناتج القومي للولايات المتحدة، للتدليل. ولذلك؛ فمن مصلحة الدول المتقدمة التعامل المبكر مع الأوبئة بصرف النظر عن مكان ظهورها، لأنه بعد انتشارها يصعب السيطرة عليها وعلى تكلفتها في فقدان الأرواح البشرية، وكذلك التبعات الاقتصادية. ووجدت الحكومات كلها أن عليها التعامل مع انحسار النشاط الاقتصادي وتعويض بعض شركاتها، وخاصة الصغيرة والمتوسطة.
ولكن المشكلة الرئيسية خلال المفاوضات بمنظمة الصحة العالمية أن الدول المتقدمة ترى أنه على الدول النامية كذلك تحمل قدر من المسؤولية في التعامل مع الأوبئة المحتملة أو منعها من خلال الاستثمار بشكل أكبر في المجال الصحي لديها وتطويره ورفع قدراته واتباع سياسات صحية ومجتمعية مماثلة للتي يتبعها الغرب، ومنها منهج الصحة الواحدة، بمعنى الترابط بين البشر والحيوانات والبيئة بما فيها النباتات. كما تهتم الدول المتقدمة بأن تلتزم الدول النامية وغيرها بتقديم بيانات عن مسببات الأوبئة بشكل مبكر - على خلفية تمهل الصين شهراً في الإعلان عن ظهور كورونا بها - وأن يقترن ذلك بتقاسم للمنافع من خلال نظام متعدد الأطراف جارية بلورته.
على الجانب الآخر، ترى معظم الدول النامية أن الطريق لتطوير أنظمتها الصحية، أن توجه الدول الغنية مزيداً من الموارد المالية لهذا الغرض «العالمي»، وأن تعمل على زيادة الاستثمارات المباشرة في دول الجنوب، بل وأن يتم منح إعفاء على الحماية بالملكية الفكرية للمنتجات الدوائية ذات الصلة بالأوبئة، وأن تجبر شركاتها العالمية على نقل التكنولوجيا للدول النامية، وهي كلها أمور لها وجاهتها ولكن ربما هي أكبر من أن تتناولها اتفاقية بمنظمة الصحة العالمية، لا سيما أنه سبق طرحها في محافل عديدة خلال السنوات الخمسين الأخيرة من دون تحقيق تقدم يذكر بشأنها.
في المقابل، تتخوف الدول المتقدمة من أن يكون السعي إلى التوصل لاتفاقية دولية للتعاون في منع الأوبئة فخاً لتقديم مزيد من المساعدات أو الأموال للدول النامية، ومنها دول كبيرة كالصين والهند والبرازيل، وخاصة في توقيت يتباطأ فيه متوسط معدل النمو العالمي، إذ يبلغ 3 في المائة حالياً.
ولكن هل تقف الاتفاقية عند هذه المصاعب وحسب؟ الإجابة هي بالنفي. فهناك جوانب عديدة أمكن التوصل لتفاهمات بشأنها، بخاصة خلال السنة الماضية، ولا سيما في الأشهر الأخيرة، ومنها إنشاء شبكة للإمداد العالمي للمستحضرات الطبية ذات الصلة بالأوبئة، واستعداد الدول المتقدمة للالتزام بتقديم 20 في المائة من الأمصال التي تنتجها في حالة وباء للدول الأكثر احتياجاً؛ نصفها في شكل تبرعات والنصف الآخر بأسعار محتملة. كما أصبح هناك تجاوب أكثر مع ضرورة تحديث وزيادة القدرات الإنتاجية في الدول النامية. ويشمل النص الجاري التفاوض حوله أحكاماً كثيرة مهمة لا يوجد عليها خلاف حقيقي في هذه الآونة، بعدما نجحت هيئة مكتب الجهاز التفاوضي للاتفاقية في طرح نص منقح للاتفاقية يوم 16 أبريل الحالي، معروض على حكومات الدول التي ستناقشه فيما بينها عند استئناف الدورة التاسعة للجهاز التفاوضي للاتفاقية بجنيف من 29 أبريل إلى 10 مايو (أيار) 2024. وسيتحدد مقدار النجاح أو الفشل بمقدار تحلي الدول مجتمعة بمسؤولياتها التاريخية في هذا الموضوع الحيوي المهم في إطار من الالتزام بمبادئ الإنصاف والعدالة وتقاسم المسؤولية.
*عضو هيئة مكتب الجهاز التفاوضي للاتفاقية
عن إقليم شرق المتوسط (الإيمرو)