الأفلام تتلاحق في مهرجان «برلين»، ولا تسمح بأي مساحة أخرى، رغم أن صوت السياسة كان يعلو بين الحين والآخر مسيطراً على المشهد، فإننا في النهاية نبحث عن السينما ونعثر أيضاً عليها.
نضبط جميعاً معشر الصحافيين والنقاد الساعة بالدقيقة والثانية على موعد عروض الأفلام، تلقى الوفد المصري دعوة رسمية من السفير النشط العاشق للثقافة، الأستاذ خالد جلال للقاء، وكان معنا حسين فهمي، الذي يحضر بصفته رئيساً لمهرجان القاهرة، ومعه فريق العمل لاختيار أفلام من تلك التي حظي بها «برلين» تصلح للعرض في «القاهرة».
وهو ما تفعله العديد من المهرجانات مثل «البحر الأحمر»، حيث يوجد عدد من مبرمجي المهرجان، وأيضاً «مالمو» يتابع الأفلام المخرج محمد القبلاوي رئيس ومؤسس المهرجان وغيره.
في حفل عشاء السفارة المصرية انطلق حسين فهمي ليروي الكثير من الذكريات، وبينها حكايته مع فريد الأطرش، شاركه آخر أفلامه «نغم في حياتي»، الذي عرض عام 75 بعد رحيل فريد ببضعة أشهر. قال حسين: «في البداية لم أكن متحمساً للدور رغم حبي لفريد، لأنه في النهاية فيلم للموسيقار الكبير، ولكن اتصل بي وطلب مني أن أشاركه البطولة قائلا: (هذا هو آخر أفلامي يا حسين)، والغريب أن السيناريو صنع على هذا النحو، ومخرج الفيلم هنري بركات وهو أحد أهم المخرجين في عالمنا العربي، تحسباً لما يمكن أن يحدث، كان يضع تفاصيل في السيناريو تتضمن الخطة البديلة في حالة رحيل فريد، وتسلمنا جميعاً النسختين، وبعلم فريد الذي لم يكن يخفي عن أحد، أن هذا الفيلم هو آخر إطلالة له على الدنيا، وتقبَّل الأمر ببساطة وقناعة ورضا، وطلب في وصيته لنا أن يشيع جثمانه في مصر، ويدفن بجوار شقيقته أسمهان.
طلب بركات من فريد أن يذهب للمطار ويصوره وهو يشير بيديه للوداع، ثم قدَّم لقطة لطائرة تحلق في السماء، ولم تكن تلك اللقطات في السيناريو الأول (في حالة بقاء فريد على قيد الحياة) أو في الثاني الذي كان سيتم تنفيذه بعد الرحيل، علمت فيما بعد أن بركات وضع سيناريو ثالثاً لم يفكر فيه أحد، وهو أن يكمل فريد تصوير الفيلم، ولكنه يرحل قبل عرضه الجماهيري، وهو ما حدث بالفعل، لتصبح تلك اللقطات هي بالفعل القادرة على كسر الحاجز الوهمي بين الشاشة والجمهور، وكانت الناس تبكي بعدها وهم يغادرون دار العرض».
عدد من الفنانين قدموا أعمالهم مدركين أن تلك هي آخر أنفاسهم على الشاشة، نجيب الريحاني في «غزل البنات» طلب من ليلى مراد أن يلتقي معها، عندما تصادف أن وجدا في مصعد العمارة قائلاً لها: «عايزين نمثل فيلم مع بعض قبل ما أموت»، وبالفعل تحمَّس أنور وجدي وكتب السيناريو، وأعاد أنور المونتاج الأخير، لأن نجيب لم يكمل كل اللقطات، وشاهدناه وبكينا معه وهو يردد وعيونه تبكي «عيني بترف» مع ليلى مراد في أروع «دويتو» أحببناه من فرط صدقه، لأنه يجمع بين البسمة والدمعة.
أحمد زكي في فيلم «حليم» آخر عمل فني لعب بطولته، وعرض أيضاً بعد رحيله، كان المخرج شريف عرفة قد وضع سيناريو بديلاً، وأحمد زكي كان مدركاً ذلك، ولهذا وافق على مشاركة ابنه هيثم التمثيل لأول مرة، رغم أنه كان في البداية معترضاً على احترافه تلك المهنة، المخرج شريف عرفة قال لي إنه أحياناً، خوفاً من إجهاد أحمد، كان يضطر إلى تغيير بعض المشاهد، وفي لقطة كان ينبغي أن نرى فيها أحمد زكي يجري لاهثاً في المستشفى للحاق بحبيبته، ولم تكن حالته الصحية تسمح بذلك، ولم يستطع أحمد سوى المشي سريعاً، وارتضى شريف بهذا القدر، ولكن أحمد زكي طلب الإعادة ليجري في ردهات المستشفى وكأنه لا يعاني من قسوة المرض، بل آخر مشاهد صورها كان قد فقد تماماً قدرته على الإبصار، وفي النهاية لاستكمال الفيلم استعان عرفة بالسيناريو البديل، بعد الرحيل، النجوم الكبار لا يغادرون الميدان حتى اللحظة الأخيرة، وهكذا الريحاني وفريد وزكي.
خدعوك فقالوا في مهرجان «برلين» لا صوت يعلو على السياسة، الحقيقة أن هذه الدورة التي تحمل رقم «73» أثبتت أن صوت فريد الأطرش لا يزال يعلو على الجميع.