ارفعوا أيديكم عن الكرواسون

منذ 4 ساعة 13

هو ألذ ما يتناوله القوم هنا في فطور الصباح مع القهوة بالحليب. يحب الفرنسيون فطيرة الكرواسون ويقصدون خبّاز الحي خصيصاً لشرائها ساخنة مع الشعاع الأول. هذا إذا تكرمت الشمس وأشرقت في الصقيع الحالي. يحافظون على هذا التقليد ويتوارثونه وينافحون عنه مثل رمز قومي.

وخبازو فرنسا ممتعضون هذه الأيام. وهم يقفون صفاً واحداً ضد العبث بهذه العجينة وبمذاقاتها. وتزداد الغضبة ضراوة حين يأتي العدوان من الإنجليز، جيرانهم الألداء. ففي الضفة المقابلة من بحر المانش يتعرض الكرواسون لتحويرات كأنها مؤامرة. هذا ما سجله الخبراء في تقاريرهم. ذلك أن للمعجنات خبراء وطهاة ومتحدثين بلابل في قنوات التلفزيون. يقولون إن خصومهم المتطفلين على الكرواسون يجعلونه مالحاً حيناً، أو محشواً بالخضراوات، أو ملفوفاً على شرائح من سمك السالمون والمقانق. وهذا، لعمري، تلاعب يظنه الإنجليز تجديداً وابتكاراً بينما هو في عرف الفرنسيين هرطقة واعتداء على الهلال الهش المعجون بالزبدة والمفرود بنشابة الولع.

في مقال يحتل نصف صفحة من صحيفة يومية باريسية، تتساءل المحررة: «ماذا يحدث بحق الجحيم للكرواسون في إنجلترا»؟ والمقال مملوء بأوصاف مثل: هجين، مُتحوّل، مسخ، مُفكك، بدعة، حتى يكاد يعجز القاموس عن ضخّ مزيد من المترادفات. إنها تعيب على مرتادي مواقع التواصل ترويجهم لتلك النسخ المشوهة من «فخر الفطور الفرنسي» وتهافت الشباب على الإبداعات الهجينة الآتية من وراء الحدود.

لا تنقم المحررة على الإنجليز وحدهم، بل تكيل التهم لطاهٍ فرنسي يدعى دومينيك أنسل، افتتح في حي «سوهو» مخبزاً يقدم أنواعاً مُحورَة من الكرواسون. يقف الزبائن طوابير لكي يتذوقوا «إبداعاته»، أي «جرائمه» في حق تراث بلاده. تلك خيانة عظمى. ومن لندن انتقلت التقليعة إلى نيويورك وصار لها مريدوها هناك. هي إذن حرب عالمية، لا سيما وأن الهنود دخلوا على الخط وافتتح أحدهم مطعماً يقدم الشاي مع عجينة تخلط بين الكرواسون والسمبوسة اللاذعة المحشوة بالخضراوات. ثم جاء آخر وراح يقدم الكرواسون بالآيس كريم، وثالث يقترحه مربع الشكل، أو بحجم مضاعف، وضاعت الطاسة.

كل هذه المعمعة وهذه المخبوزة ليست فرنسية في الأساس، بل جاءت من النمسا. عجينة مورقة اسمها الأصلي «كيبفيرل». اتخذت شكل الهلال بعد حصار العثمانيين لفيينا في عام 1683. وتقول الأسطورة إن خبازاً يدعى آدم سبيل استيقظ قبل الفجر لتهيئة العجين وهو من أعطى الإنذار بأن الأتراك قادمون. استعد أهل المدينة لهم وجرى صدّهم. وتكريماً له صنعوا هذه الفطائر الصغيرة. ومن فيينا انتقلت إلى باريس وظهرت المخابز التي تدعى «فيينوازري»، نسبة إلى فيينا. وما زالت التسمية موجودة. أما الكرواسون بنسخته الحالية فقد رأى النور على يد الخباز سيلفان كلوديوس غوي عام 1915. وسارت الأمور على ما يرام حتى مد الإنجليز أنوفهم المدببة وتورطوا فيما لا يعنيهم.