غرينلاند... جزيرة في انتظار قرار

منذ 4 ساعة 12

برزت جزيرة غرينلاند أخيراً في وسائل الإعلام الدولية، عقب تصريحات نارية أدلى بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب. الرئيس المنتخب عرضَ شراء الجزيرة من الدنمارك. وفي حالة تعذر ذلك، ورفضت الدنمارك الطلب، هدد باحتلالها بقوة السلاح. الدنمارك استعمرت الجزيرة في القرن الثامن عشر، وحالياً، تتولى أمر شؤونها الخارجية والأمنية، بعد أن منحت سكانها حكماً ذاتياً.

اللافت في الأمر، وأثار دهشة الكثيرين، أن الرئيس الأميركي المنتخب ترمب لم يتوجه بطلب الشراء، على غرابته، إلى من يقيمون بالجزيرة؛ سواء حكومتها المحلية المنتخبة من قبل السكان والراعية لشؤونهم ولشؤون الجزيرة، أو السكان البالغ عددهم 60 ألف نسمة، أي كأنهم لا وجود لهم، وهذا لعمري أمرٌ غريبٌ جداً، يعيد إلى الأذهان، باختلاف ضئيل، الظاهرة الاستعمارية الأوروبية، علماً بأنّه معادٍ للحرب، حسبما صرّح مراراً.

السؤال: هل بإمكان دولة، قرب نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، أن تشتري دولة أخرى بسكانها أو تهدد باحتلالها بقوة السلاح؟

يجد المرء معلومات سخية عن هذه الجزيرة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فهي كما تقول المواقع كبرى الجُزر في العالم مساحة وشديدة البرودة، لقربها من القطب المتجمد الشمالي، ويعيش سكانها على صيد السمك والسياحة، وإنّها جغرافياً أقربُ مسافةً إلى كندا منها إلى الدنمارك وأميركا. كثير من سكانها يطالب بإنهاء التبعية للدنمارك، أو على الأقل منح الجزيرة وسكانها هامشاً سياسياً فسيحاً لتسيير شؤونهم بأنفسهم.

مواردُ الجزيرة حالياً فقيرة، لا تكفي لمعيشة السكان، ولذلك هم يعتمدون على الدنمارك لسد العجز في الميزانية، أي أن الدنمارك تسدُ العجز بأكثر من النصف. ومن هذه الزاوية تحديداً، يرى أغلب السكان أن المطالبة بالاستقلال الكامل عن الدنمارك ينقصها التعقل، والأفضل من ذلك البقاء تحت التبعية الدنماركية، على أن تتعهد الدنمارك بمنحهم هامشاً أكبر من الحالي لتسيير شؤونهم بأنفسهم، وأن تطبق عليهم مبدأ المساواة بمواطنيها في تعاملها معهم، سواء في الرواتب، أو في توفير الخدمات التعليمية والصحية... إلخ.

وبالتأكيد، فإن الثروة السمكية ليست الباعث والمحفّز للرئيس الأميركي ترمب على احتلال الجزيرة بقوة السلاح. بل ما يكمن في أعماق الجزيرة من ثروات طبيعية - المعادن على وجه التحديد - خصوصاً منها تلك التي تدخل في كثير من الصناعات التكنولوجية الحديثة، والنفط والغاز. ولكن الأهمَّ من كل هذا هو قربها وموقعها الاستراتيجي من القطب الشمالي الذي تسيطر على أغلبه روسيا.

وماذا لو رفض سكان الجزيرة أن ينقلوا تبعيتهم من الدنمارك إلى أميركا؟ هذا الاحتمال مطروح ومشروع. إذ من حق سكان الجزيرة أن يدلوا بدلائهم في أمرهم ويقرروا هم دون غيرهم، من يتولى تسيير شؤونهم وشؤون جزيرتهم، كونهم بشراً، وليسوا قطيعاً حيوانياً. فهل سيتجاهل رئيس أكبر دولة ديمقراطية في العالم مطلباً ديمقراطياً، يؤكد احترام حقّ تقرير المصير؟

التقارير الإعلامية المتاحة يتفق جميعها على أن أغلب السكان لا يريد نقل تبعيته من الدنمارك إلى أميركا.

وللإنصاف، فإن الرئيس ترمب كان متسقاً مع نفسه تماماً، كما عرفناه حتى قبل أن يتولى رئاسة أميركا عام 2017. ولذلك السبب، كان صريحاً جداً في تصريحاته المتعلقة بالجزيرة. أي أنه ليس مثل قادة أوروبا الذين تزعموا ظاهرة التمدد الاستعماري في مختلف القارات طلباً لإشباع نهم مصانعهم من المواد الخام الرخيصة وفتح أسواق أمام منتوجاتها. الرئيس ترمب دخل المسرح السياسي قادماً من قطاع المال والأعمال في فترة متأخرة من عمره، ولم يكن رجل سياسة أو جنرالاً في جيش. بل شبَّ وكبُر في عالم مختلف، واشتهر بنجاحه في إبرام الصفقات التجارية. والجزيرة، استناداً إلى تلك الخلفية المهنية، تعدُّ صفقة تجارية أخرى، مربحة جداً، يتوجب الحصول عليها بأي ثمن، خصوصاً أن لديه الآن الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك. وفي الأخير، إذا لم يُقبل عَرضُ المال، يأتي بعده، وعلى وجه السرعة، دورُ البوارج الحربية.

فهل سنرى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يبدأ فترة رئاسته الثانية بإصدار أمر لجنرالاته بالاستعداد للاستيلاء على جزيرة غرينلاند، وضمها بالقوة إلى أميركا؟ أم أننا سنشهد سيناريو مختلفاً قليلاً، كأن يبدأ عهده الرئاسي الثاني بشنّ حرب أولاً ضد المهاجرين غير القانونيين، أو إعلان حرب حمائية تجارية ضد الحلفاء والأعداء على السواء؟ أم أنّه، اختصاراً للوقت والجهد، يقرر شنّ حروب على كل تلك الجبهات في مرة واحدة، ومباشرة بعد أن ينتهي من احتلال قناة بنما أولاً؟