عولمة الانحرافات الجنسية

منذ 1 سنة 181

على مرِّ العصور لم يخلُ أي مجتمع من الانحرافات الأخلاقية بشتى صورها، لكنها ظلت مذمومة وغير معترَف بها، بوصفها لا تتفق مع الفطرة الإنسانية ولا مع التعاليم السماوية ولا مع المدونات الأخلاقية المتوارثة والمتعارف عليها، فضلاً عن أنها تمثل خطراً يهدد أي مجتمع. وقد استقر في الضمير الإنساني بعد خبرات تاريخية كثيرة أن هذه الانحرافات إشارة إلى أي أمة أو حضارة على الدخول في طَوْر الأفول والتلاشي، ولا شك في أنَّ اتساع نطاق الظاهرة لتصبح برنامجاً وطنياً لبعض الحكومات الغربية مدعاة للدهشة والاستنكار، فهل في الخلف أيادٍ خفية تدفع هذا التوجه قُدماً؟ أم أن ذلك جاء في إطار تسييس القضية وخضوعها لتأثير المنافسة الحزبية، وولع الأحزاب والنخب بالوصول إلى السُّلطة ولو على حساب استقرار مجتمعاتهم ومستقبلها؟ أم جاء استجابة لقوة مجتمعات «الميم» وتمدُّدها في أجواء الحرية غير المنضبطة، وفي إطار جماعات الضغط التي تتبنَّى أفكارهم، التي صار لديها تأثير كبير في عمليات صنع القرار في المجتمعات الغربية، بل في دوائر السُّلطة؟! كما أنه مثير للتساؤل إذاً: في أي سياق صعدت هذه الظاهرة؟ وما خطورتها؟

في البداية يمكن النظر إلى هذه المسألة من خلال منظورين: الأول ثقافي فلسفي، والآخر سياسي.

على المستوى الثقافي والفلسفي، فإن المثلية الجنسية مظهر من مظاهر مذهب اللذة والمنفعة، الذي يجعل أتباعه اللذةَ غايةَ الفعل الإنساني، ومعيارَ الخيرية، وهذا مذهب فلسفي قديم أحيته المادية الغربية حديثاً، لكن هذه المذاهب التي دعمت الشذوذ الجنسي كانت منبوذة بفضل الأديان السماوية والقيم المجتمعية والأعراف المتوارثة. وهكذا يمكن القول إن الظاهرة تجلَّت في أسوأ صورها تحت غطاء نزعة الإلحاد والعلمنة الشاملة والمادية البحتة التي لم تُقصِ الدين عن السياسة فحسب، بل أقصته عن الواقع برمته، وجعلت من الحرية قيمة مطلقة تعلو كل قيمة، بما فيها القيم والثوابت المستقرة للفطرة السليمة وتعاليم الأديان، وبالتالي مثَّلت الظاهرة النقلة الأسوأ بعد ثقافة الإباحية وتسليع المرأة، التي تبنَّاها الغرب وروَّجها.

أما على المستوى السياسي، فمن الواضح أن الظاهرة تخطَّت طابعها الاجتماعي، وتمدَّدت وفرضت نفسها لتصبح أجندة سياسية لكثير من الحكومات، حتى وصلت إلى حدِّ تقنين زواج المثليين في بعض الدول الغربية، ثم أخذت زخماً دوليّاً وأصبحت ضمن جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعض مؤسساتها المتخصصة، وضمن الحقوق التي ترعاها الأمم المتحدة، ومن ثم أُدرجت ضمن أجندة كثير من الدول محلياً وعلى الصعيد الدولي، إذ تحاول هذه الدول فرضها على المجتمعات، في انتهاك صارخ لسيادتها وقيمها وثقافتها وإرادتها، وفي انتهاك لليبرالية الغربية نفسها، التي تؤمن بحرية المجتمعات في تشريع قوانينها وتقرير مصائرها، بل تخطت الظاهرة الحدود، إذ لا يوفر الغرب الحماية لمجتمع «الميم» والترويج له فحسب، بل باتت الحكومات تتبنَّى سياساتٍ لتشجيع العبور الجنسي، وتوجد دعوات للاعتراف بـ«البيدوفيليا» كحق مكفول، فربما تصير بدَهية من بدَهيات الحضارة الغربية لاحقاً كما حدث مع مجتمع «الميم» من قبل.

الشاهد، أن ظاهرة الشذوذ الجنسي المعاصرة بأبعادها الفلسفية والسياسية، التي تُفرض بالإكراه تارة وبالقوانين تارة أخرى، هي من ملامح الانحدار القيمي في الحضارة الغربية، ودليل على التفكك الداخلي الذي ينخر في عمق هذه المجتمعات، وذلك رغم هالة القوة التي لا تزال تمنح هذه المجتمعات السيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم، وأن دولاً أخرى حذت حذو الغرب في هذه الطريق.

وتشير الظاهرة إلى أن الغرب يبتعد أكثر فأكثر عن قيمه الدينية ويخلق صداماً حضارياً كارثياً، فالشذوذ ليس مضاداً لتعاليم الإسلام وحده، بل مضاد لتعاليم الأديان السماوية كلها، بما فيها المسيحية التي تجاوزها الغرب اليوم، إذ على الرغم من أن المسيحية قد أُقصيت وحوصرت داخل دور العبادة منذ قرون، فإنها لا تزال مجالاً للفخر والاعتزاز في هذه المجتمعات وعلى مستوى العالم المسيحي الأكبر.

مكمن الخطورة أن الغرب يضع مجتمعاته والعالم أمام اختبارات صعبة، فالانقسام السياسي والتناحر الطبقي قد ينسحب إلى الانقسامات الجندرية والجنسية، وهو ما قد يفجر المجتمعات الغربية نفسها من الداخل، لا سيَّما أن قطاعات كبيرة منها تخشى على مستقبل أبنائها في إطار سياسات حكومية داعمة للتحولات الجنسية والعبور الجنسي، وفي الوقت نفسه يسعى أصحاب هذه الميول إلى مكتسبات أوسع، بل بات كثير منهم في مراكز صنع القرار.

تكمن الخطورة أيضاً في أن ترتبط عملية عولمة الشذوذ الجنسي بالأجندة الغربية الأوسع في العالم، ومن ثم يتم فرض مزيد من الضغوط والعقوبات لوقف تشريعاتها الداخلية المناهضة للظاهرة، كما حدث مع اليابان الحليفة للغرب، بل ربما تُفرض على الدول سياساتٌ تحمي هذه الانحرافات، أو أن تُربط برامج المساعدات بأجندة الشذوذ الجنسي، وهو ما قد يكون له أثره في بعض المجتمعات الضعيفة والهشة، وهو ما يزيد زخْم هذه الموجة، وربما يخلق تحديات في بعض الحالات، وتأتي الخطورة من بعض المنظمات التي تدعم هذه الظاهرة، إذ إن الدعم الذي تكفله لها المنظمات والدول يكون مغرياً، وهو ما قد يدفعها إلى تبنِّي هذه الأجندة الخبيثة مقابل الامتيازات المادية.

كذلك فإن مجتمعاتنا تواجه خطراً أكبر في ظل الضغط الترويجي على وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية المختلفة، فالظاهرة قد يوجد لها صدى بين الأجيال الجديدة، لا سيَّما في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها بعض الدول، ومن جهة أخرى من المستقر في علم الاجتماع أن أي موجات متطرفة باتجاه الانحلال تواجهها موجات أصولية معاكسة باتجاه التشدد الأخلاقي والديني، والحقيقة لم يكن العالم بحاجة إلى هذه المواجهة غير الأخلاقية التي تُفرض عليه قسراً، وتشغله عن مواجهة التحديات الحقيقية للمجتمعات، وتوفر بيئة للصدامات والعنف.

وفي الختام يمكن القول إن الترويج للمثلية وجعلها أجندةً وصمةُ عارٍ في جبين الإنسانية عموماً، والحضارة الغربية تحديداً، والعالم كان في غنى عن تصدير هذا السلوك المنحرف وجعله ضمن الأولويات، إذ إنها سياسة صدامية لا طائل منها، تحيد بمسيرة الإنسان عن طريق الخلاص، لا سيَّما أن كثيراً من الدول، ومجتمعاتنا الشرقية والإسلامية على وجه الخصوص، لا تزال تحتفظ بهويتها الروحية والدينية، وتتحد خلف رفض هذه الظاهرة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات الدينية الكبرى في العالم الإسلامي، على اختلاف مذاهبها، ترفض ظاهرة الشذوذ ومحاولات فرضها على المجتمعات المسلمة، وكذلك الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي ترفض ذلك وتراه خطراً يهدد استقرارها وأمنها القومي. ويمكن في هذا الصدد زيادة التنسيق بين دول العالم الإسلامي لرفض الضغط الغربي، وإحداث ضغط مضاد يُشعر الغرب بأن التمادي في مثل هذه السياسات يعرِّض مصالحه وتحالفاته التاريخية للخطر، وكذلك تحصين الجبهات الداخلية ودعم المؤسسات الدينية لمخاطبة أجيال الشباب وتعليمها الشريعة الصحيحة والخطاب الديني المعتدل المستنير للمحافظة على الأجيال القادمة من عدوى الانحلال.