صنعة في اليد

منذ 1 يوم 14

في العالم العربي تغرس الأسرة العربية في أبنائها ومنذ نعومة أظفارهم أهدافاً تعليمية محددة، وتركز الأسر على ترغيب أبنائها بدراسة الطب أو الهندسة، فإن لم يكن فالكليات العسكرية، وتتجاهل هذه الأسرة التخصصات الفنية المنتهية بالدبلوم بدلاً من البكالوريوس، بل إن بعض الأفراد ينظرون لخريجي الدبلومات الفنية نظرة دونية، وبعض التجمعات العربية تحتقر العمل الفني.

وأنا هنا لا أعمم، بل أتحدث عن المعظم، ولأني لا أعمم أتذكر أنني قبل أربعين عاماً كنت أستمع إلى إذاعة عربية، نسيت اسمها لطول المدة، وكان المذيع يحاور طبيباً لبنانياً، وأثناء اللقاء اتضح أن والد الطبيب طبيب أيضاً، فقال المذيع وبعفوية للطبيب اللبناني أكيد أنك ستوجّه ابنك لدراسة الطب، فأجاب الطبيب اللبناني لا، بل سأوجهه لدراسة المالية، وحينها لم يكن هذا التخصص معروفاً بدقة، بل إن الجامعات العربية لا تدرسه تخصصاً مستقلاً، وعلى دارسه أن يتوجه لجامعة أجنبية، استغرب المذيع من إجابة الطبيب اللبناني وكان السؤال العفوي الآخر لماذا لا توجهه لدراسة الطب ووالده وجده طبيبان؟

أتت إجابة الطبيب محددة وواضحة جداً؛ إذ قال للمذيع تشبّع العالم العربي بالأطباء والمهندسين، وأخشى ألا يجد ابني وظيفة يعمل بها، بينما أرى دراسة المالية والتخصصات المتعلقة بالاقتصاد هي المستقبل.

هذا الوعي المبكر لدى هذا الطبيب بمتطلبات السوق هو ما نريده، نريد من الشباب أن يدرسوا ما تحتاج إليه سوق العمل، فمن غير المنطقي أن يتوجه كل شبابنا للدراسة الجامعية فقط، فهناك أعمال وسيطة يجب أن تشغل بكوادر متخصصة.

ومن الطريف أن بعضاً ممن اتجهوا إلى دراسة التخصصات الفنية أصبحت دخولهم السنوية أكثر من دخول الأطباء والمهندسين، ومع ذلك نرى العزوف عن مثل هذه التخصصات.

لو اتجه شبابنا للدراسة الجامعية فقط، لأصبح لدينا اقتصاد أعرج؛ فالاقتصاد المزدهر يحتاج إلى كل التخصصات وأهمها الفنية، وأنا أعرف شباباً سَيّرتهم الظروف لا الخطط لدراسة الميكانيكا، وهي دراسة لا تتجاوز المرحلة المتوسطة أو ما يعرف في عالمنا العربي بالصف التاسع، وكان المجتمع وقتها ينظر إليهم بعين الشفقة بصفتهم غير قادرين على مواصلة تعليمهم الجامعي، لكن ما حدث بعد ذلك كان مختلفاً؛ إذ إن معظمهم بعد التخرج من هذه المعاهد الفنية افتتحوا ورشاً لإصلاح السيارات وأصبحت ظروفهم المادية جيدة جداً، فانقلبت الآية ليبدأ مجتمعهم بالفخر بما أنجزوه ليتبدل الذم مدحاً.

تغير النظرة الاجتماعية لهذه المهن يجب أن يحدث ويتكيف مع الواقع ويستجيب لمتطلبات سوق العمل، ومثلنا العربي يقول «صنعة في اليد أمان من الفقر». ودمتم.