عاد الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، والعالم لا يزال مندهشاً في مزيد من الانتظار والترقب. رقص ترمب مع زوجته ميلانيا بينما كانت الأنظار والعقول تتراقص حول علامات استفهام كثيرة: ماذا سيكون جوهر العالم في ظل حزمة القرارات التي اتخذها في اللحظات الأولى من عودته؟ وماذا سيفعل في الميراث الأميركي الطويل الذي يمتد إلى ثمانية عقود على الأقل، من علاقات متشابكة وشديدة التعقيد وتحالفات متينة وحلفاء مشمولين بالرعاية الأميركية؟
وهل هو قادر على تنفيذ أجندته في الداخل والخارج، خصوصاً أن أميركا تعوّدت على حكم مؤسسات تشريعية وأمنية تحد من نفوذ ساكن البيت الأبيض؟
لا شك أن قراراته في الأيام الأولى أصابت جوهر النظام الدولي؛ فقد خرج ترمب من مؤسستين عالميتين بقرار واحد: الخروج من منظمة الصحة العالمية، وهي منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وهي اتفاقية دولية ملزِمة لكل الدول الموقعة عليها ومعتمَدة من الأمم المتحدة. ثم قراره بفرض ضرائب وجمارك على الدول الأجنبية، مما يعني إصابة مباشرة للاقتصاد العالمي، وتمزيقاً للاتفاقات الثنائية بين الدول، بما يمسّ باتفاقية التجارة العالمية الحرة، واتفاقيات التجارة عبر المحيط مع الدول الأوروبية. هذا على مستوى جوهر العالم.
أمَّا على مستوى الميراث الأميركي الطويل، فقد بدا واضحاً أن ترمب يسعى للتخلص من هذا الميراث الذي قاد الولايات المتحدة إلى النفوذ الشامل في شتى بقاع العالم. هذا النفوذ اعتمد على السيطرة على البحار والمحيطات عسكرياً بقواعد منتشرة حول العالم، وعلى اتفاق «بريتون وودز» الذي جعل من الدولار العملة الرسمية لاقتصاد العالم الحديث، وعلى التدخل في الثورات والانقلابات والغزو والحروب مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب الكوريتين، وحرب فيتنام، وحروب الشرق الأوسط وأفغانستان والعراق، وصولاً إلى ما يُسمى «الربيع العربي»، وما يرتبط به من هندسة المجتمعات، ونشر الديمقراطية، والحرب العالمية على الإرهاب.
هذا الميراث الذي عاشت به أميركا طويلاً، يراه ترمب عبئاً، وكسره يمثل تهديداً للسياسة الأميركية التقليدية غير «الترمبية»، ويؤدي إلى اختلال التحالفات العسكرية والاستراتيجية، كحلف الناتو، خصوصاً أن ترمب هدّد أكثر من مرة بالانسحاب منه، بذريعة أن أعضاء الحلف لا يدفعون أنصبتهم العادلة في الحلف، ويتركون أميركا تتحمل النصيب الأكبر. ومن المعروف أن واشنطن تدفع 72 في المائة من مقدرات الحلف منذ نشأته عام 1949. كل هذا، في وجهة نظر ترمب، هدرٌ للأموال الأميركية وانتقاص من حقوق الأميركيين الاقتصادية، ولذلك يرفع شعار: «أميركا أولاً»، وهي أول عبارة وردت في خطاب تنصيبه، واتخذ من شعار حركة «ماغا»، (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، عنواناً لسياسته الجديدة.
وجاء قراره الثانوي العميق بوقف التمويلات الأميركية للمنظمات والجمعيات والدول الأجنبية لمدة 90 يوماً، بذريعة الدراسة والتمحيص عن جدوى هذه الأموال للسياسة الأميركية، ليؤكد أن ترمب جادٌّ في فحص كفاءة السياسة البيروقراطية المتَّبَعَة في دولاب الدولة الأميركية.
ربما يظل السؤال حول قدرته على تنفيذ ما ورد في خطاب تنصيبه، وما اتخذه من قرارات صادمة للسياسة الأميركية والعالمية، مطروحاً بقوة. وهنا أستطيع القول إن رغبة وإرادة ترمب قد تصطدمان بالمؤسسات التشريعية (الكونغرس بشقيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ)، إضافةً إلى المؤسسات الأمنية العميقة، وأجهزة الوزارات البيروقراطية، ومراكز التفكير الاستراتيجية، ووسائل الإعلام المناهضة، وأجهزة القضاء والقانون.
وقد رأينا بالفعل تعطيل قراره الخاص بعدم منح الجنسية للأطفال المهاجرين غير الشرعيين من أربع ولايات ديمقراطية، حيث عُدَّ القرار مخالفاً لبنود الدستور الأميركي الأصلي. ورغم هذه العقبات الدستورية والقانونية، فإن ترمب يستند إلى قاعدة شعبية تؤمن بتصريحاته وقراراته.
هذه القاعدة تلقّت بارتياح شديد قرار التنقيب عن الطاقة التقليدية (البترول والغاز) في أراضي الولايات المتحدة. على سبيل المثال، انخفض سعر غالون البنزين بنسبة كبيرة عقب هذا القرار، مما أشعر الجمهور الأميركي بالارتياح بعد فترة تضخم هائلة استمرّت لأربع سنوات خلال عهد الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن.
فضلاً عن ذلك، فإن رفعه شعار «رجل سلام»، وسعيه لإطفاء الحروب، جعل قاعدته الشعبية تشعر بالامتنان. فكونه سيمنع الحروب الخارجية، يعني ذلك عدم إهدار الطاقة الأميركية في حروب عبثية استمرّت أكثر من ثمانية عقود، وأدت إلى تريليونات من الديون الداخلية والخارجية.
وسط كل هذا، يبدو أن الملف الأخطر أمام ترمب هو قرار رفع السرية عن مقتل الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي، إذ إن هذا القرار قد يطول مؤسسات أميركية عميقة. إضافةً إلى ذلك، هناك رفع السرية عن أحداث 11 سبتمبر من عام 2001.
إن انتهاج ترمب سياسةً علنية في الداخل والخارج، وفتح هذه الملفات المسكوت عنها، يمثلان سياسة تهدف إلى رفع السرية عن كاهل الدولة الأميركية، وجعلها أمة «كبرى عالمية دون إمبراطورية».