على امتداد قرون، لطالما تواصل الناس عبر موائد الطعام واستغلوا فترات تناول الطعام للوصول إلى أهداف سياسية. وثمة أسباب وجيهة تقف وراء ذلك. تاريخياً، كثيراً ما جرى النظر إلى طاولة الطعام بوصفها مساحة محايدة يجري عندها وضع الأسلحة جانباً، والانخراط في محادثات صريحة، سعياً لبناء إجماع، والتوصل إلى اتفاقات.
وقد استغل الفراعنة المصريون والقادة اليونانيون والرومان وأباطرة الصين والقياصرة الروس إغراء الطعام لتوسيع نطاق نفوذهم. كما استلهمت جاكي كينيدي أمسياتها من أمسيات لويس الرابع عشر ملك فرنسا. وحرص الرؤساء المهووسون بالطعام، مثل توماس جيفرسون، وفرنكلين روزفلت، ودوايت أيزنهاور، وباراك أوباما، على استغلال وجبات العشاء للتواصل مع القواعد السياسية، وجمع المعلومات، والترويج لأجنداتهم.
واليوم، يُستخدم مصطلح «دبلوماسية الطهي» لوصف كيف يستخدم زعماء العالم وجبات العشاء الرسمية وغيرها من الوجبات الرسمية للتواصل على نحو يحمل طابعاً شخصياً أكبر. وتصف «دبلوماسية الطعام» الطريقة التي تستخدم بها الدول مطابخها لتسويق نفسها في أوساط دول أجنبية، وتعزيز التجارة والسياحة. وكل من النهجين يعمل على تعزيز حكم القوة الناعمة، في مقابل القوة العسكرية الصارمة، وقد أثبت كل منهما كونه أداة فاعلة في الإقناع.
ومع ذلك، في هذا الوقت الذي يتسم بالانقسامات الحزبية الحادة في الداخل وتصاعد العنف في الخارج، ينسى الناس أو يتجاهلون تلك الدروس الأساسية من التاريخ. واليوم، تضاءل عدد الاتصالات والصفقات التي تجري أثناء انعقاد موائد الغداء في غرف الطعام بمجلس الشيوخ أو في حفلات الكوكتيل في واشنطن، ما دفع نقاد للتشكيك في قيمة وجبات العشاء الرسمية التقليدية خلال القرن الحادي والعشرين. كما تعرضت دبلوماسية الطعام للهجوم كونها تُشكل إسرافاً لا داعي له وغير ذات تأثير.
ومع ذلك، يتضارب مثل هذا الاعتراض مع التاريخ والفطرة السليمة، وحتى البيولوجيا البشرية. وثمة حقيقة بديهية غابت عن المنتقدين: على الجميع أن يأكلوا.
في هذا الصدد، قال روبن دنبار، الأستاذ الفخري بمجال علم النفس التطوري بجامعة أكسفورد، إنه عند أعمق مستوياتنا: «جرى تصميمنا بيولوجياً من أجل التفاعل البشري. ويبدو أننا نحتاج إلى تناول الطعام معاً، حتى عندما لا نتفق مع بعضنا بعضاً».
وأضاف «لا نعرف سبب ذلك». إلا أنه يطرح نظرية لتفسير الأمر تدور حول فكرة أن الأكل الجماعي يحفز الإندورفين، وهي المواد الأفيونية التي تفرزها أجسامنا بشكل طبيعي، والتي تعزز السلوكيات الجيدة. اللافت أنه حتى أقرب أقربائنا من الرئيسيات، مثل الشمبانزي والبونوبو، لا يأكلون بشكل جماعي كما نفعل. إنها سمة إنسانية حصراً ضمنت لنا بقاءنا - وفي بعض الأحيان صحتنا العقلية، كما ذكرتنا بأيام العزلة خلال جائحة فيروس «كورونا».
في الولايات المتحدة، يعد الرئيس مضيفنا الأول، وتعد حفلات العشاء الرسمية من بين أهم الأحداث التي يجري تنظيمها داخل البيت الأبيض. واليوم، تحتفي هذه الحفلات بإنجاز مفاوضات متوترة في بعض الأحيان مع رؤساء الدول الزائرين، وهي حفلات تحمل أهمية رمزية. وتُعد هذه الحفلات استعراضاً للسخاء والقوة الأميركية، وتقدم أفضل ما لدينا من طعام وترفيه، وتحتفي بالدول.
تاريخياً، جرى عقد أول عشاء رسمي لزعيم أجنبي في ديسمبر (كانون الأول) 1874، عندما استضاف يوليسيس غرانت الملك ديفيد كالاكوا، ملك جزر هاواي. كان لدى الملك كالاكوا سكر ليبيعه، لكنه واجه تعريفات جمركية أميركية صارمة؛ لذلك توجه إلى واشنطن بحثاً عن حل. وبالفعل، جرى الترحيب به من خلال مأدبة عشاء رسمية شاركت فيها فرقة موسيقية تتبع سلاح البحرية، وتضمنت تزيين غرفة الطعام الرسمية بديكورات متقنة، ووجبة فاخرة أعدها فالنتينو ميلاه، الذي قيل عن طبق حساء الخضراوات الذي أعده في كتاب صدر عام 1873 كان يتناول الحياة بواشنطن، «أكثر سلاسة قليلاً من دماغ الطاووس، لكن ليس بنكهة في مستوى روعة طبق من ألسنة العندليب». وبعد شهر، وافق الرئيس غرانت على السماح باستيراد المنتجات الزراعية من هاواي، بما في ذلك السكر، إلى الولايات المتحدة دون تعريفات جمركية، مقابل امتيازات اقتصادية مختلفة. وكانت هذه الصفقة بمثابة نذير بضم هاواي، التي أطلق عليها ولايتنا الخمسين عام 1959. وبذلك أسس الحزب الذي يقوده غرانت نموذجاً لحفلات العشاء الرسمية التي لم تتغير إلا قليلاً على مدار قرن ونصف القرن.
وبطبيعة الحال، لكل رئيس أسلوبه الخاص في الاستضافة. على سبيل المثال، عندما استضاف جيمي كارتر كلاً من مناحيم وأنور السادات في كامب ديفيد عام 1978، جرى تحذيره من أن إقرار السلام بين أعداء الدم يكاد يكون مستحيلاً. وأثناء تنقله بين المتقاتلين، حرصت روزالين كارتر على ترتيب أطباق الطعام في مناطق مختلفة - فوندو الجبن هنا، والفراولة المغطاة بالشوكولاته هناك، والمشروبات في الفناء - على أمل أن يختلط المندوبون الصغار من البلدين. وبالفعل، نجح الأمر. وإذا كان بوسع المندوبين أن يكسروا الخبز وأن يتحدثوا بسلام معاً، «فما الذي يمنع قادتهم عن ذلك؟»، تساءلت روزالين كارتر في مذكراتها التي تحمل عنوان «السيدة الأولى من السهول». وفي النهاية أنجزوا المهمة المطلوبة بالفعل، وجرى التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاقيات كامب ديفيد. وكتبت روزالين كارتر متعجبة: «لقد أصبح المستحيل ممكناً». وفي مارس (آذار) 1979، استضافت عائلة كارتر بيغن والسادات و1340 ضيفاً في حفل عشاء في الحديقة الجنوبية.
من جهتهم، أدرك آل ريغان غريزياً أن السياسة هي شكل من أشكال الأعمال الاستعراضية. وبالفعل، عام 1985 صمموا انقلاباً مسرحياً مذهلاً من خلال استضافة الأمير تشارلز والأميرة ديانا في حفل عشاء، رقص خلاله جون ترافولتا مع الأميرة. وفي عام 1987، استضافت عائلة ريغان مأدبة عشاء أكثر تحفظاً لعائلة غورباتشوف بعد أن أدت معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى إلى ذوبان الجليد خلال حقبة الحرب الباردة.
في هذا الصدد، أشار جاك ماتلوك، المتخصص في الشؤون السوفياتية، إلى أن الرئيس والأمين العام نجحا في تحقيق انفراجة بينهما عبر سلسلة من الوجبات. وعلق على ذلك بقوله: «يصبح تحقيق الهدف المشترك أكثر صعوبة إذا لم تكن ودوداً».
خلال الآونة الأخيرة، تساءل متشككون عما إذا كانت حفلات العشاء الرسمية قد أصبحت ببساطة فعاليات مكلفة تجاوزها الزمن. جدير بالذكر أن دونالد ترمب عقد حفلتي عشاء رسميتين فقط قبل أن تضرب الجائحة، رغم أنه لا يبدو أنه يمانع ذلك. وقال خلال حملته الانتخابية عام 2016: «لا ينبغي لنا أن نقيم حفلات عشاء رسمية على الإطلاق. ينبغي لنا أن نتناول الهمبرغر على طاولة المؤتمرات، ويتعين علينا أن نعقد صفقات أفضل مع الصين وغيرها».
ومع ذلك، تشكل دبلوماسية الطعام نقيضاً للانعزالية. في فبراير (شباط)، أطلقت إدارة بايدن و«مؤسسة جيمس بيرد»، كياناً جديداً أطلق عليه «هيئة الطهي الأميركية»، بهدف استغلال مطبخنا الرائع متعدد اللغات لتعزيز النيات الحسنة. وبموجب البرنامج، الذي أقر عام 2012 خلال إدارة أوباما وأصابه الجمود لبعض الوقت عام 2016، وافق أكثر من 80 من الطهاة ومحترفي الطهي - بما في ذلك خوسيه أندريس، وبادما لاكشمي، وغريس يونغ، وشون شيرمان، وكارلا هول - على العمل بوصفهم «مواطنين دبلوماسيين». وحتى الآن، انتشر حوالي 30 في المائة من سفراء الطهي هؤلاء في مختلف أرجاء البلاد، وحول العالم لنشر الكلمة الطيبة حول فن الطبخ الأميركي.
* خدمة «نيويورك تايمز»