الإجابة:
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فمن المقرر في الشريعة الإسلامية الغراء أن رضا المرأة شرط في صحة النكاح، والسنة النبوية طافحة بهذا الحكم العظيم، وعلى بطلان عقد نكاح المجبَرة:
فعن بريدة بن الحصيب، عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: جاءتْ فتاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها فقالتْ: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن تعلِّمَ النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء؛ رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه.
وروى البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية "أن أباها زوّجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّ نكاحه"؛ أي: فسخه وفرّق بينهما.
ورواه النسائي عن جابر: أن رجلاً زوَّج ابنته وهي بكر من غير أمرها, فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرق بينهما".
وعن ابن عباس: "أن جارية بكرًا أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أبي زوجني - وهي كارهة - فرد النبي - صلى الله عليه وسلم – نكاحها"؛ رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
كما دلّت على أنه لا يجوز للولي أب أو غيره أن يستأذن الفتاة في الزواج:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن))، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت))؛ رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة.
وفيهما عن عائشة قالت قلتُ: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: ((نعم))، قلت: فإن البكر تستأمر فتستحيي فتسكت، قال: ((سكاتها إذنها))؛ وهو دليل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى؛ كما قال الصنعاني في "سُبُل السلام".
وروى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها))، وفي رواية: ((الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها))، وروى أحمد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أشيروا على النساء في أنفسهن))، وصححه الألباني.
كما أن إجبار الفتاة على الزواج يعدُّ حجرًا عليها، وهو مخالِفٌ لقواعد الشرع الصحيح والعقل الصريح، ومعلوم أن مناط الحجر هو الصغر أو الجنون أو السَّفَه، فلا يحجر على الفتاة العاقلة الرشيدة.
والواجب على الأولياء احترام رأي المرأة، وتعاوُنهم معها في اختيار الزوج المناسب، فالولي بتجاربه الحياتية وعقلانيته يستطيع النظر في مصْلحة المرأة، والنظر في حُقُوقها المادية، ويوجه عاطفتها الوجهة الصالحة في حُسن الاختيار، لا أن يستأثر بالرضا بدلاً عنها.
ولا شك أن جناية الإجبار استهانة بآدمية الفتاة، بعواطفها وإحساسها، وإهانتها بعد تكريم الإسلام إياها من إهانات الجاهليات القديمة والحديثة، ولا شك أنَّ إهمالَ ذلك له تأثيرٌ مدمِّر على البيت المسلم، وعلى استقرار الحياة الزوجية، ويفضي غالبًا إلى استحالة العِشْرة بين الزوجين التي تقوم أول ما تقوم على المودة والرحمة والألفة، حتى إن الله تعالى قد ذَكَر وهو يُعدد آياته الدالة على انفراده بالإلهية وكمال عظمته، ونفوذ مشيئته، وقوة اقتداره، وجميل صنعه، وعجائب خلقه، ومعجزات وخوارق التكوين، وسعة رحمته وإحسانه= ذكر أنه خلق لعباده أزواجًا متناسبة متشاكلة، جالبة للمودة؛ ليحصل الاستمتاع واللذة والمنفعة والسكون؛ قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
فالله تعالى هو مَن يودع في النفس البشريَّة العواطف والمشاعر، ويجعل في الزواج سكن النفس، وراحة الجسم والقلب، واستقرارَ الحياة، وأنس الروح، أو ينزع سبحانه ذلك كله، ويجعل نقيضه من التنافر الجالب للهم والغم.
ومن روائع ما قال صاحب الظلال: "والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يُصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فيُدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسَيْن على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية، وعقلية، وجسدية؛ بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر".
إذا تقرر هذا فيجب الرجوع للفتاة فإن أقرّت ما فعل أولياؤها صحّ الزواج، وإن رفضت فرّق بينهما،، والله أعلم.