هذا التصعيد الحاد من جانب الصين يتجاوز الطابع الاقتصادي ليتقاطع مع حسابات جيوسياسية معقدة، ترسم ملامح نظام عالمي جديد بدأ يتبلور على وقع التوترات العابرة للمحيطات.
ما يلفت في الخطاب الرسمي الصيني أكثر من التصعيد الجمركي العددي، هو الطابع السيادي الذي أضفاه الرئيس شي جينبينغ على الموقف برمّته. تصريحه "لا نخاف... ومعاداة العالم تؤدي للعزلة"، لم يكن موجهاً فقط إلى واشنطن، بل إلى العواصم الأوروبية المترددة بين موازنة المصالح مع الصين والالتحاق بالمحور الأمريكي من دون شروط.
هذا الخطاب يأتي في وقت تسعى فيه بكين لإقناع بروكسل بضرورة مقاومة "التنمّر الاقتصادي"، وعرضها تعميق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي يكشف نية صينية في توسيع هامش التحرك خارج الثنائية القطبية التقليدية.
الصين، عبر وزارة ماليتها، أوضحت بأنها "لن تصعّد مجدداً مهما رفعت أمريكا الرسوم". هذا الإعلان لا يعكس تراجعاً بل توجهاً استراتيجياً نحو نزع الفاعلية السياسية عن سلاح الرسوم الأمريكية، وتوجيه الضغط نحو الداخل الأمريكي من خلال التضخم المرتقب، والمقاومة المتزايدة من مجتمع الأعمال الأمريكي.
الرسوم الجمركية كسلاح جيوسياسي
الاقتصاد الصيني يدخل هذه الجولة من الحرب التجارية في حالة من التقلّب الحرج. فبعد سنوات من الركود العقاري وارتفاع بطالة الشباب، باتت الصادرات تمثل الأوكسيجين الأخير لنمو يتباطأ.
من هنا، يأتي الرد الجمركي الصيني بحدّة، ولكن أيضاً بحذر. بكين تعي أنّ مزيداً من التصعيد قد يعمّق من شبح الانكماش ويعرّض خطط شي جينبينغ للتحول الصناعي والتكنولوجي إلى الخطر.
إلا أن الصين لا تخلو من أدوات التكيف. فالقيادة الصينية تنوي تحريك رزمة من السياسات التحفيزية، تتراوح بين تخفيف الاحتياطيات الإلزامية على البنوك، وتقديم دعم مباشر للإنفاق الأسري، إلى جانب توسيع برامج إنتاج الأجهزة والمنتجات الاستهلاكية. هذا النموذج ليس جديداً، ولكنه يكتسب اليوم طابعاً طارئاً. فكلما اشتدت الضغوط، زادت حظوظ تدخّل الدولة لتطويق الأثر.
ما يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال رفع الرسوم الجمركية إلى 145% على المنتجات الصينية، يمثل إجراءً حمائياً من جهة، وتكتيك تطويق مزدوج اقتصادياً وتكنولوجياً من جهةٍ ثانية.
وفي السياق ذاته، تشير تحليلات متعددة إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد توسيعاً للحظر على تصدير التقنيات المتقدمة -مثل الرقائق الدقيقة وأدوات البيوتكنولوجيا- وهي نقطة ضعف استراتيجية في النموذج الصيني.
رد بكين عبر رفع الرسوم إلى 125% يحمل في طيّاته رسالة سياسية أكثر منها اقتصادية: أن الصين لن تقبل بلعبة إخضاع طويلة الأمد. وفي هذا السياق، فإن التصعيد لا يُقرأ فقط على خلفية حجم التجارة الثنائية (700 مليار دولار سنوياً)، بل على خلفية ما تمثله هذه المواجهة في ميزان القوى العالمي.
أوروبا والتوازن المرتجى
لا يخفى أن الصين تسعى إلى جذب أوروبا نحو مقاربة ثالثة، عبر خطاب يحذّر من الانعزال الأمريكي ويدعو إلى "الاعتماد على الذات" في العلاقات التجارية.
وفي هذا الاتجاه، لم يخاطب شي جينبينغ فقط رئيس وزراء إسبانيا في زيارته الحالية إلى الصين، بل خاطب مشروع الاتحاد الأوروبي بأكمله، في لحظة مفصلية يحاول فيها الأوروبيون فكّ ارتباطهم التدريجي من الهيمنة الصناعية الصينية، من دون السقوط في فخ الاصطفاف الأمريكي المطلق.
الرهان الصيني هنا يبدو مزدوجاً: أولاً، تقوية الجبهة الدولية ضد الحمائية الأمريكية، وثانياً، فتح منافذ جديدة لسلعها في ظل ما وصفه المحللون بـ"تسونامي التصدير" القادم نتيجة انغلاق السوق الأمريكية. غير أن هذا الطموح يصطدم بتنامي الخطاب الأوروبي الداعي إلى "الاستقلالية الاستراتيجية"، وبدء دراسة فرض قيود على بعض المنتجات الصينية ذات الطابع التنافسي غير العادل.
حدود اللعبة
الواقع أن الحرب التجارية الراهنة تخرج عن نطاقها الاقتصادي لتتحول إلى صراع هوياتي حول من سيقود المرحلة المقبلة من العولمة. في ظل الركود الصناعي الأمريكي، يسعى ترامب إلى استعادة السيطرة عبر ضرب "مصنع العالم" في قلبه. وفي المقابل، تدافع الصين عن نموذجها بوصفه بديلاً لمنظومة مالية وتجارية اعتبرتها -منذ أزمة 2008- غير عادلة.
لكن اللعبة مكلفة للطرفين. ففي حين ترتفع الأسعار في الأسواق الأمريكية نتيجة الرسوم، تواجه الصين احتمالات زيادة الانكماش، وتراجعاً في ثقة الأسواق، خاصة مع تحذيرات مؤسسات مثل "غولدمان ساكس" بخفض نمو الناتج إلى 4% أو أقل.
من الصعب، في هذه المرحلة، الجزم بمآلات هذه المواجهة. غير أن المؤكد أن الصين -رغم الضغوط- لا تتجه نحو الانكفاء، بل إلى إعادة تشكيل أدوات الرد الاستراتيجي. لقد تخلّت عن سياسة "الصبر الطويل"، واعتمدت خطاباً أكثر حدة، من دون أن تنزلق إلى مقامرة اقتصادية كبرى.
ويبقى السؤال مفتوحاً: هل سينجح شي جينبينغ في تحويل هذه المواجهة إلى فرصة لإعادة بناء نموذج صيني أكثر استقلالاً عن السوق الأمريكية؟ أم أن تصعيد ترامب سيُدخل الاقتصاد العالمي في دوامة جديدة لا رابح فيها؟ في الحالتين، فإن ما بدأ كإجراء جمركي بات يهدد بزلزال في قلب النظام التجاري الدولي.