الحرب الأهلية مفهوم يثير الالتباس لدى الباحثين ومراكز البحوث المعنية، منهم من يراه يشرح حالة عنف بين مجموعات داخل الدولة بهدف السيطرة على النظام ومؤسساته، ومنهم من يراه حالة صراعية بين مجموعات منظمة ومسلحة من الشعب وبين مؤيدي الحكومة القائمة، إما لانتزاع بعض المزايا المهدورة سياسياً واقتصادياً، أو قلب الحكومة ذاتها والانفراد بالحكم. وفي الحالتين تعمّ الفوضى وتسيل دماء بكثرة، وتتدهور حالة المجتمع ككل، على الأقل لفترة من الزمن إلى أن يبلور النظام الجديد المنتصر أو الذي يُتفق عليه مؤسسات للحكم المركزي تعكس نتائج الصراع. الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة من العنف المجتمعي عديدة، تمزج بين التهميش السياسي والاقتصادي لمجموعات من السكان لأسباب آيديولوجية أو عرقية أو دينية، وضعف الحكومة وانتفاء تمثيلها المتوازن لفئات المجتمع كافة، وتدخلات خارجية تحفّز فئة من المجتمع أو فئات بعينها للتمرد على الحكومة بغية تحقيق هدف استراتيجي، وحصول المتعاونين على مزايا نسبية.
حين حذر الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ حكومة بنيامين نتنياهو من خطورة الإجراءات المزمع تقنينها تحت مسمى الإصلاح القضائي، باعتبار أنها قد تدفع البلاد إلى حرب أهلية بين اليهود أنفسهم، تلقى كثير من المعلقين الإسرائيليين التحذير بالبحث والتحليل. بعضهم وجد التحذير في محله تماماً، وآخرون وجدوا فيه مبالغة لا تستقيم مع حالة الديمقراطية التي يتميز بها الكيان الإسرائيلي.
اللافت للنظر هنا، أن التحذير الرئاسي يستند إلى حقائق وتطورات على الأرض يصعب إنكارها، وكلها مرتبطة بانحراف الشارع الإسرائيلي إلى أقصى درجات التطرف السياسي؛ ما أنتج حكومة يمنية متطرفة تستهدف تغيير بنية الدولة والتغلب على المهزومين العلمانيين، وتغيير أسس الحكم النظامية والعرفية السائدة منذ نشأة الكيان.
التحذير من اندلاع حرب أهلية يهودية امتد إلى مجموعة من المعلقين والمؤرخين وعدد من كبار الضباط بعضهم في الخدمة وبعضهم الآخر في الاحتياط، الجميع يرى أن إسرائيل مؤهلة للدخول في دورة صراعية كبرى بين اليهود أنفسهم بسبب مشروعات قوانين حكومة نتنياهو الرامية إلى تغيير العلاقة بين الحكومة، وهي الجهة التنفيذية، وبين السلطة القضائية، بحيث تفرض الحكومة رأيها في تشكيل المحكمة العليا، وتتقلص صلاحياتها في الاعتراض على التشريعات التي يقرّها الأغلبية في الكنيست، بحيث تمنح نتنياهو إمكانية الهروب من أي محاكمة قضائية لوقائع الفساد المُتهم فها، وتعطيه الحق في منح مناصب وزارية لفاسدين آخرين في التحالف الحكومي من دون أي اعتراض من السلطة القضائية وتجاوز أحكامها السابقة بشأن هؤلاء. فيما يعني تغلب الحكومة على القضاء، ما يوفر مساحة غير محدودة للحكومة لتمرير قوانين تغير الكثير من الأسس التي قام عليها الكيان، ومنحته سمات ديمقراطية، تبدو لدى المعترضين على نوايا الحكومة معرضة للاختفاء التدريجي.
ولذا؛ تظهر لدى المحتجين والمعارضة شعارات دفاعاً عن الديمقراطية، وعن استقلال القضاء، وبالتالي الحفاظ على الصورة الذهبية التي تتمتع بها إسرائيل في أوساط المدافعين عنها بقوة في الدوائر الأميركية بالدرجة الأولى والأخيرة، والتي تبرر لهم دعم كل ما تقوم به الحكومات الإسرائيلية في ترسيخ احتلال الأراضي الفلسطينية وإهدار حقوق الفلسطينيين، باعتباره شرطاً جوهرياً لبقاء الكيان يهودياً نقياً وديمقراطياً.
الدفاع عن ديمقراطية ذات طابع تمييزي بالأساس، يمتد أيضاً إلى تخوفات كبرى بشأن بقاء إسرائيل ذاتها، فليئور بن عامي كتب في «يدعوت أحرونوت» رسالة تخيلية بدأها «إلى حفيد حفيدي سلام، كيف حالك؟ كيف حال شعب إسرائيل؟ هل يوجد شيء اسمه إسرائيل؟ هذا أنا، جد جدك»، مشيراً إلى أن السبب يكمن في التحول إلى نظام استبدادي. التحذير من قتل الآخر اليهودي أخاه، بات تعبيراً متكرراً في بيانات وتصريحات شخصيات ذات باع في المجال الأمني والعسكري، أحدهم وصف الأمر بأن الديكتاتوريات حين تنجح في إسقاط الديمقراطيات، فإنها تؤدي إلى فوضى وصراع تسيل فيه الدماء إلى أن تستعيد الديمقراطية نفسها مرة أخرى.
الخوف على بقاء إسرائيل يمثل أحد أبعاد المشهد المتدحرج نحو معركة مصيرية، فالأحزاب الصهيونية الدينية التي تبتز رئيس الحكومة وتهدده بالانسحاب من الائتلاف، ما يعنى سقوط الحكومة وتعرضه للمحاكمة وضياع مستقبله السياسي، مُصرّة على تمرير القوانين المتفق عليها كأساس لاستمرارها في الحكومة، وتربطها بمزايا شخصية وأخرى تتعلق برؤيتها الآيديولوجية اليمينية الخاصة بالاستيلاء على كل أرض فلسطين وتسريع الاستيطان وتهجير الفلسطينيين بأسرع مدى ممكن، كما تربطها أيضاً بأبعاد عرقية عبّر عنها أكثر من مرة، بن غفير رئيس حزب «القوة اليهودية»، بحقوق اليهود الشرقيين التي لم تراعَ في مؤسسات الدولة منذ نشأتها، ومواجهة تغلغل نفوذ اليهود الأشكناز الغربيين في القضاء والإعلام والجامعات والمستويات العليا في الجيش والشرطة. وجملة تلك الأبعاد، أن الصراع بين مكونات المجتمع اليهودي أصبحت معقدة، تتشابك فيها أبعاد عرقية وطموحات التغلب والسيطرة وإعادة تشكيل بنية الدولة وطريقة الحكم، وفرض حقائق جديدة دون أدنى اكتراث بنتائجها القريبة أو البعيدة.
في دراسات الحرب الأهلية، تبين أن نتائجها السلبية على القوى المتصارعة كافة تتصاعد مع استمرار المواجهات والعنف، أما في الحالة الإسرائيلية، فالتداعيات بدأت مبكرة. اقتصادياً هناك حالة هروب للأموال من البنوك الإسرائيلية بمعدلات فاقت عشر مرات المعدل المعتاد، وحين عبّر رؤساء البنوك عن مشاعر الخطر من هكذا اتجاه على الاقتصاد الإسرائيلي وعلى مكانة البنوك الإسرائيلية في الأسواق الخارجية، في لقاء لهم مع سموتريتش وزير المالية، أنكر أي خطر، وأصرّ على أن الإصلاحات المنتظرة سوف تتجاوز تلك الأمور. في السياق ذاته، أوقفت مجموعة شركات كبرى تعمل في المجال الإلكتروني، تحويل 2.2 مليار دولار من عملياتها الخارجية إلى الداخل، كما نقلت 50 شركة استثماراتها إلى خارج إسرائيل، منهم 37 شركة تعمل في مجال التكنولوجيا، ويحذر اقتصاديون من تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل، وتراجع الاستثمارات الخارجية.
مظاهر الاحتجاج ضد سطوة اليمين المتطرف، تتجاوز الأشكال التقليدية، حيث المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتكررة، فهناك مشاركة رفض متصاعدة من كبار ضباط الاحتياط، يحظون بخدمة عسكرية رفيعة وفق المقاييس الإسرائيلية، وبعضهم يعمل في مراكز بحوث في الجامعات ومنظمات مدنية مختلفة، كما أقدم ضابطان احتياطيان على عمل مبتكر، حيث خطفا دبابة إسرائيلية غير مستخدمة في موقع في الجولان، وعلقوا عليها بياناً يرفض الإصلاح القضائي المزعوم، وجابوا في بعض الطرقات ودعوا الناس للتوقيع عليه، ووجدوا تجاوباً كبيراً. وبعد القبض عليهما، أكد أحدهما أنها البداية في الاعتراض.
مؤشرات الحرب الأهلية كما هي واردة في البحوث والدراسات وبرامج الذكاء الصناعي الخاصة بتحليل الاستقرار الداخلي للدول والمناطق، وأحدها برنامج إسرائيلي شهير، مؤكدة في الحالة الإسرائيلية، ويظهر معها أكبر الاحتمالات سواداً، ما لم يكن للضغط الأميركي المحتمل نظرياً رأي آخر.