القرآن: قوة الرمز وتحدياته!

منذ 1 سنة 345

منذ نحو العقدين، ظلت أنجيليكا نويفرت الدارسة الكبيرة للقرآن تتحدانا وتتحدى المستشرقين الجدد بالإصرار على أنّ القرآن مثل العهدين القديم والجديد هو من الكتب المقدسة التي تبلورت رسالتها وثقافتها في العصور الكلاسيكية المتأخرة (بين القرنين الرابع والسابع للميلاد)، ولأنه كذلك فهو أوروبي أو ينبغي أن يكون كذلك مثلما هما الكتابان الآخران؛ نظراً لموقعهما المعتبر في ثقافة القارة القديمة! والأطروحة طويلة ومعقدة، لكنها صارت ديدن عشرات الباحثين في الكلاسيكيات، والذين تجاوزوا الأطروحات الساذجة أو التبشيرية في دَين القرآن للكتابين. والقرآن منذ القرن الثاني عشر أيام بطرس المبجَّل في دير كلوني، رائد أول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية، ظلّ على مدى ألف عام نقطة السحر الجاذبة لاهتمام اللاهوتيين والفلاسفة ومثقفي عصر الأنوار؛ في محاولاتٍ لا تتوقف إما للتحطيم وإما للاستلهام دونما نجاحٍ في اكتشاف أسرار فتنته لدى المسلمين ولدى خصومهم.
في القرن التاسع عشر، قال المستشرقون (العلميون!) إنهم سينصرفون لدراسة القرآن ليس من أجل الكسر أو الإنكار. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث أو لم يستتب. فقد ظلّ القارئون والشارحون والمترجمون وغالبيتهم من البروتستانت أو اليهود ينتصرون لإحدى المقاربتين. ذوو الأصول اليهودية ركزوا على الأصول التوراتية، وظلوا يكتبون في ذلك حتى منتصف القرن العشرين وما بعد. وذوو الأصول البروتستانتية ركّزوا على الأصول الإنجيلية للقرآن. لكن إذا كان القرآن ذا أصول توراتية، فلماذا النقد الراديكالي لليهودية فيه؟ وإذا كان إنجيلياً فلماذا النقد الراديكالي لأطروحات رئيسية في الإنجيل؟ وقلة قليلة فقط اهتمت بالمشتركات، وأنّ القرآن الذي اعترف بأهل الكتاب، كان يمتلك إبّان نزوله في مطالع القرن السابع رسالة ذات شقين: الدعوة الإبراهيمية واحدة في الأصل، وإن المطلوب التصحيح والتحرير في النصوص وفي البنى الكهنوتية لتعود الاستقامة على الكلمة السواء؛ دونما إلغاءٍ لهذا الطرف أو ذاك. بل إنّ خوان كول صاحب كتاب «محمد رسول السلام وسط صراع الإمبراطوريات» (2019)، يقول إنه بالإضافة للرسالة ذات الشقين، كان القرآن والنبي يريدان الإخراج من حروب الفرس والروم ونشر السلام.
لقد كانت هناك، كما سبق القول، استثناءات في زمن الأنوار عندما اكتشف بعضهم بسبب تقدم المعرفة باللغة العربية، اكتشف شعرية القرآن وسحره، لكنه لم يفرق بينه كتب أخرى! وفي كل الأحوال، وكما في القرن التاسع عشر، تأثرت رؤية القرآن سلباً بسبب الصراع بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية على مدى ثلاثة قرون. وعندما تراجعت الدولة العثمانية، وظهر الاستشراق (العلمي) ما تغير الوضع كثيراً لأن المستشرقين، وكلهم ذوو خلفيات ثقافية لاهوتية، انصبّ اهتمامهم كما سبق القول على ماذا أخذ القرآن عن العهد القديم أو العهد الجديد؟ فإن وجدوا في القرآن قصة أو وصفاً للطبيعة ليس موجوداً في نص الكتابين، قالوا: مأخوذ عن الإسرائيليات أو الشفهيات الشعبية اليهودية والمسيحية! وقد اكتشف أحد اللاهوتيين المعاصرين أنّ القصص القرآني الذي له مثائل في أسفار العهد القديم أو الجديد يملك دائماً منطقاً وغائيات مختلفة، فذهب فوراً إلى أنّ النبي تعمد ذلك حتى لا يقال إنه مأخوذ من أصول توراتية أو إنجيلية!
إنّ هذا الجدال، كما سبق القول أيضاً وأيضاً، قديم قديم، وهو يعبّر عن صراع ديني وسياسي انقضى أوانه وانقضت مسوغاته. ولذلك أمكن للبابا فرنسِس وشيخ الأزهر أن يلتقيا بأبوظبي في 4 فبراير (شباط) عام 2019 على وثيقة الأخوة الإنسانية التي تشير إلى قواسم مشتركة كبرى كانت موجودة دائماً في النصوص، لكنّ التاريخ بأحداثه الضخام كان يحول دون اكتشافها وتقديرها. وهذا اللقاء ليس الأول. ففي مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965) جرى الاعتراف بالإسلام باعتباره إحدى الديانات الإبراهيمية. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الحوارات وليس مع الكاثوليك فقط؛ بل ومع الكنائس الإنجيلية الكبرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذه العودة إلى تمزيق القرآن أو إحراقه في السويد والدنمارك؟ وهناك حادثة وحيدة منعزلة قبل سنواتٍ في الولايات المتحدة. فهل لذلك علاقة بأحداث العنف والإرهاب التي كانت لها وقائع هائلة وأصداء في أوروبا وفي غيرها في العقدين الأخيرين؟ لذلك علاقة بالطبع بالإسلاموفوبيا المترتبة على العنف السالف الذكر. لكنّ هذه الأحداث التي توشك أن تصبح ظاهرة لها علاقة أكبر بتيارات اليمين الديني وغير الديني الصاعدة منذ ثلاثة عقود بالقارة الأوروبية. ويقال لنا دائماً إنّ العصبيات الدينية ما عادت من شيم أوروبا المغادرة للدين، وإنما تهمهم أكثر كثافة الهجرة الإسلامية، وهم متشبثون بحرية التعبير مهما أدَّت إليه! والمقصود من ذلك لدى بعض الراديكاليين إهانة هؤلاء الناس الساكنين بين ظهرانيهم. فالقرآن رمزٌ إذا تحديته فقد تحديت كل المسلمين في أوروبا وفي العالم، وسواء أكانوا متدينين أم غير متدينين. وهو الأمر الذي حدث في سويسرا عندما ذهبوا إلى استفتاء لمنع إقامة المآذن، وفي فرنسا في رسوم شارلي إبدو، وفي الدنمارك وهولندا في رسومٍ أخرى. وقد نبهني بعض المقيمين بالغرب إلى أن هذه الحوادث تجري في الأعم الأغلب بالمجتمعات البروتستانتية، فلما ذكّرته بأنّ فرنسا كاثوليكية في الأصل سكت متحيراً!
لحسن الحظ وليس أكثر، ما كانت هناك ردود أفعال عنيفة باستثناء مظاهرات في تركيا. أما باكستان التي اشتهر جمهورها بردود الأفعال فهي منهكة بالطوفان والسيول والإرهاب الذي يقتل في المساجد. إنما كل المسلمين الشاعرين بالإهانة كما نرى في الفضائيات لا يصدقون أنّ الحكومات الاسكندنافية تسكت أمام هذه الأحداث أو تتركها تمر من أجل عيون حرية الرأي وحرية التعبير، ثم ما دخْل الحرية بإحراق المصحف؟! هؤلاء يرون أنّ هذه الحوادث تعبير عن الكراهية المفرطة. ويذكّرون بأنّ الإهانة تحدث دائماً إما بالعدوان على النبي (حادثتا سلمان رشدي وشارلي إبدو)، وإما العدوان على القرآن.
الصحافي الباكستاني أحمد رشيد الذي كتب عن «القاعدة» وعن «طالبان» يذهب إلى أنه كلما ابتعدت أحداث العنف، تراجعت الحملات على المسلمين ورموزهم. أما أنجيليكا نويفرت فتصرُّ على أطروحتها لجهة إقناع الجميع بأنّ القرآن كتاب مثل التوراة، وهي لم تُسمّ كتباً إلا في القرنين الرابع والخامس للميلاد! فالقرآن الذي ظهر في المحيط نفسه وسمَّى نفسه كتاباً منذ سنوات النبوة الأولى، لا ينبغي أن يُستبعد من المصادر الثقافية الأوروبية، بسبب مشكلات العثمانيين مع الأوروبيين. ولست على قناعة أنّ الأوروبيين يمكن أن يحكموا بأوروبية القرآن، أيّاً تكن الظروف. إنما نريد منهم ألا يصروا على تبرير الصمت المقذع بحرية التعبير.
يقول رجلا الدين الكبيران البابا وشيخ الأزهر في وثيقة الأخوة الإنسانية إنّ علاقة الشرق بالغرب ضرورية لكليهما، ليس في البحار والتجارة وتبادل الطاقة والسِّلَع فقط، بل وفي الحضارة وإنسانية الإنسان. فنحن نعرف الإنسان الأوروبي منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهم يعرفوننا ربما من أزمنة أقدم. وقد تبادلنا المدد الحضاري قديماً قبل الأديان وبعدها، بل وأتت المسيحية من عندنا إلى أوروبا. وأجيال القرن العشرين شهدت الكثير والكبير من هذا التبادل على كل المستويات.
لسنا نزعم أنّ أحداث الإساءة إلى القرآن يمكن الاستخفاف بها أو تجاوزها. لكنّ عمليات كشف الحساب كل الوقت لا تصنع مودة ولا تشكّل فعلاً حضارياً، وكما قال البابا في رسالته: «كلنا إخوة (2020) إنّ علاقاتنا الإنسانية العميقة والطويلة لا ينبغي أن تظلَّ رهينة السفهاء، ومسؤوليات الدفاع عن التواصل مشتركة، بما في ذلك إسكات السفهاء، وإلاّ فما معنى الأخوة والجوار والضيافة».