في عام 2015، التزم قادة العالم بتوفير الخدمات الصحية للجميع بحلول عام 2030. وفي عام 2023، لم يبلغ العالم سوى منتصف الطريق نحو الوفاء بهذه الغاية التي حددتها أهداف التنمية المستدامة في ما يتعلق بتحقيق التغطية الصحية الشاملة بحلول عام 2030.
وبعبارات بسيطة، يتطلب تحقيق هذا الهدف، المتفق عليه عالمياً، بذل مزيد من الجهود، من التنفيذ إلى الاستثمار في الصحة.
قراءة في بعض الأرقام
قبل جائحة «كوفيد 19»، قدّرت «منظمة الصحة العالمية» أن البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل تحتاج إلى تخصيص زيادة كبيرة في إنفاقها على الصحة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالصحة، وأنه يلزمها أن تخصص سنوياً مبالغ إضافية، تصل قيمتها مجتمعة إلى 371 مليار دولار أميركي بحلول عام 2030. وسيتيح هذا التمويل للسكان الحصول على الخدمات الصحية، وسيساهم في بناء مرافق جديدة وتدريب العاملين الصحيين ووضعهم حيثما يجب أن يكونوا.
بيد أن الآونة الأخيرة، شهدت مجموعة من العوامل الإضافية التي تزيد الحاجة إلى تخصيص تمويل إضافي لتحقيق التغطية الصحية الشاملة، مثل الاضطرابات في الخدمات الصحية بسبب النزاعات، وتغير المناخ، وعدم الاستقرار الاقتصادي.
وتشير التقديرات، أيضاً، إلى أن التأهب للجوائح في المستقبل سيتطلب استثمارات ضخمة في حدود 31.1 مليار دولار سنوياً، نحو ثلثها مطلوب توفيره من التمويل الدولي.
وساهمت الزيادات المؤقتة في الإنفاق الحكومي، في سياق الاستجابة للجائحة، في ارتفاع الإنفاق العالمي على الصحة إلى نحو 9 تريليونات دولار أميركي في عام 2020، أي نحو 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ومثّل الإنفاق العام نحو 63 في المائة من هذا المبلغ.
وبالرغم من أن الإنفاق العام سيظل المصدر الرئيسي لتمويل الصحة، فسيكون من الصعب على البلدان إيجاد الأموال اللازمة لتحقيق الهدف الطموح المتمثل في تحقيق التغطية الصحية الشاملة. وفي الوقت ذاته، يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغوط، شأنه في ذلك شأن الميزانيات الوطنية، ومن المرجح أن يمتد أثر هذه الضغوط إلى المساعدة الإنمائية. وتحتاج الخدمات الصحية إلى مصادر تمويل جديدة ومنتجات مبتكرة يمكن أن تساعد في حشد الموارد من القطاع الخاص.
التحدي هنا جسيم. فلا يمكن للبلدان منفردةً أن تحل معضلة الرعاية الصحية، بل نحن بحاجة إلى تضامن عالمي وجهود جماعية.
ولهذا السبب، يجتمع «بنك التنمية الأفريقي» و«المصرف الأوروبي للاستثمار» و«البنك الإسلامي للتنمية» و«منظمة الصحة العالمية»، من أجل إطلاق منصة استثمارية جديدة لحشد استثمارات أبلغ أثراً وأكثر اتساقاً لفائدة نظم الرعاية الصحية الأولية في البلدان وتحسين قدرتها على الصمود. ونعكف كذلك على حشد الموارد من شركاء آخرين، مثل المفوضية الأوروبية، لإزالة المخاطر من هذه الاستثمارات وجعل الظروف جذابة للغاية للبلدان المستفيدة. ولمّا كان هذا الأمر يمثل تحدياً عالمياً، فإن «مصرف التنمية للبلدان الأميركية»، وهو المصدر الرئيس لتمويل التنمية في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، يبحث كذلك إمكانية الانضمام إلى هذه الشراكة، من أجل توسيع نطاق هذه المبادرة لتشمل هذا الإقليم.
الجواب هو أنه يمكن تقديم نحو 90 في المائة من الخدمات الصحية الأساسية من خلال الرعاية الصحية الأولية في المجتمعات المحلية، عبر المهنيين الصحيين والأطباء وكادر التمريض في العيادات المحلية، لتعزيز الصحة والوقاية من الأمراض، ومن ثم تجنب خدمات الرعاية الأكثر تكلفة في المرحلتين الثانية والثالثة، أو تأخير اللجوء إليها. والرعاية الصحية الأولية هي أيضاً «عيون وآذان» النظام الصحي في أي بلد، حيث تصل إلى عمق المجتمعات المحلية التي يعيش فيها الأفراد، حتى في أبعد الأماكن.
وقد علّمتنا جائحة «كوفيد 19» والأزمة الاقتصادية الناتجة منها أن الاستثمار في الخدمات الصحية التي يمكن أن يستفيد منها الجميع ضروري للأمن الوطني والتنمية والازدهار. وذكّرتنا الجائحة أيضاً بأن التضامن والإنصاف معاً جزء لا يتجزأ من أي حل للخدمات الصحية. والتعاون بين المنظمات المتعددة الأطراف ومصارف التنمية ضروري للتصدي لهذه التحديات.
وقد أثبت هذا النوع من التعاون أنه مثمر خلال الجائحة. وقد عملت «منظمة الصحة العالمية» و«المصرف الأوروبي للاستثمار» و«المفوضية الأوروبية» على نحو وثيق مع أنغولا وإثيوبيا والأراضي الفلسطينية المحتلة ورواندا لتعزيز نظمها الصحية. ووفّرت هذه التدخلات، التي بوشرت ضمن برامج قائمة بذاتها (في إثيوبيا وفلسطين) أو كجزء من استجابة البلدان لـ«كوفيد 19» (في أنغولا ورواندا)، المساعدة التقنية والمنح والاستثمارات بمزايا تفضيلية، لتعزيز الرعاية الصحية الأولية. ففي رواندا، على سبيل المثال، تقدم «منظمة الصحة العالمية» إلى الحكومة مشورة مباشرة بشأن إعادة بناء المختبر الوطني الصحي في البلد، بتمويل من المفوضية الأوروبية و«المصرف الأوروبي للاستثمار». وسيكون المختبر الجديد، الذي يرتبط بخدمات المختبرات على مستويات الرعاية الصحية الأولية، قادراً على إجراء أكثر من 80000 اختبار أو تحليل مجاني كل عام، لفائدة أكثر من 12 مليون شخص في البلاد.
وسيساعد تعاونكم في توجيه استثمارات الحكومات الوطنية لتعزيز الرعاية الصحية الأولية ونظمها الصحية الشاملة، وزيادة التغطية الصحية الشاملة، وتحسين قدرتها على التأهب لحالات الطوارئ الصحية والوقاية منها والاستجابة لها. وسنعمل مع كل البلدان على تحديد الفجوات في النظم الصحية الوطنية، وتصميم التدخلات واستراتيجيات الاستثمار، وإيجاد التمويل، وتنفيذ المشاريع ورصد أثرها.
وسنركز معاً على إحداث أثر قابل للقياس في المحصلات الصحية لدى الأفراد، باستخدام آليات تمويل مبتكرة لتحفيز التمويل المحلي، والإسهام في تعزيز هدفنا المشترك، المتمثل في توفير الصحة للجميع، من دون دفع البلدان إلى ديون لا يمكن تحمل أعبائها. وستُطلق منصة الاستثمار الجديدة هذه في باريس، في قمة «ميثاق التمويل العالمي الجديد» (22 - 23 يونيو - حزيران 2023)، التي ستوجه نداءً جريئاً لتوليد التمويل اللازم لمكافحة أوجه عدم المساواة في الصحة وغيرها من المجالات، وتمويل التحول المناخي، وتسريع التقدم في بلوغ أهداف التنمية المستدامة.
الصحة الجيدة والرفاه هدفان مشتركان يسعى العالم بأسره إلى تحقيقهما. بيد أن تحقيقهما يقتضي من البلدان والمؤسسات أن تعمل معاً. وبينما نعزز تعاوننا، نحن مقتنعون بأن التعاون بين الدول، وأيضاً بين الحكومات والقطاع الخاص، ضروري لتحقيق التغطية الصحية الشاملة. وندعو جميعاً شركاءنا إلى الانضمام إلى منصة الاستثمار العالمية هذه.