اطلبوا «التنمية» ولو في الصين

منذ 1 سنة 301

في الرياض، عاصمة القرار العربي الجديد، و«أوروبا الجديدة» حسب رؤية ولي العهد السعودي، عقدت مجدداً ثلاث قممٍ، سعودية، وخليجية، وعربية، ولكن هذه المرة ليست مع أميركا ولا أي دولةٍ غربيةٍ، بل مع الدولة الصينية ورئيسها شي جينبينغ.
الاتجاه شرقاً، سياسة سعودية خليجية بدأت منذ سنواتٍ لبناء توازناتٍ سياسيةٍ ضمن حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهذه السياسة لم تفتأ أن آتت أكلها في هذه القمم الثلاث، فالقمم الثلاث نتيجةٌ لعمل دام لسنواتٍ أو لعقدٍ من الزمن كما تحدث الرئيس الصيني، وهذه السياسة ونتيجتها حدثٌ عالميٌ مهمٌ يغير في التوازنات الدولية والإقليمية سياسياً واقتصادياً، لا عبر السياسة وشعاراتها، بل عبر الاقتصاد وإمكانياته وطموحاته وقوته، وإن كانت السياسة والاقتصاد توأمين لا يفترقان.
الأفكار الكبرى لا تحتاج إلى شروحاتٍ مستفيضة وهوامش لا تنتهي، بل هي تعبّر عن كل ما تحتها من تفاصيل، وحين تحدث الرئيس الصيني في مقالته المنشورة بهذه المناسبة في جريدة «الرياض» عن أن «الحضارة العربية حضارة عميقة الجذور، إذ إنها تدعو إلى الوسطية والاعتدال وتشجع على الشمول والاستفادة المتبادلة وترفض الصراع الحضاري»، وحين أفاض في ذكر الحضارة العربية والعلاقات التاريخية بين العرب والصين، فقد كان يطرح أفكاراً كبرى وبسيطة في تعبيرها ولكنها تكتنز كثيرا من التصورات والرؤى والحلول، وهذا تحديداً عكس ما كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يطرحه من تمجيد للحضارة الفارسية - وهي تستحق التمجيد - ولكنه كان يعبر في الوقت ذاته عن استهانته بالحضارة العربية، واستراتيجيته وقراراته ومواقفه السياسية كلها تعكس هذا التوجه لديه، وعلى الخطى نفسه تحدث بايدن الأوبامي عن سعيه لجعل «السعودية منبوذة».
التطوّر الدائم قدر العالم والبشر، ولقد تغير العالم كثيراً بعد الحرب الباردة، فلا الغرب هو الغرب ولا الشرق هو الشرق، فأميركا أوباما وبايدن ليست أميركا ريغان وبوش الأب، كما أن صين شي جينبينغ ليست صين ماو تسي تونغ، لقد جرت في ساقية التاريخ مياه كثيرة مختلفة الألوان متعددة المشارب.
لقد تغيرت أميركا كثيراً، وتحديداً بعد سيطرة اليسار الليبرالي على الحزب الديمقراطي الأميركي، فقد ابتعدت عن حلفائها في الدول العربية ودعمت «استقرار الفوضى» فيما كان يعرف بالربيع العربي، ودعمت التيارات «الأصولية» وتقربت من خصوم الدول العربية في المنطقة وعلى رأسها «النظام الإيراني» ووقعت معه «الاتفاق النووي» المشؤوم.
عمى الآيديولوجيا وغرور القوة يصيبان الإمبراطوريات كما يصيبان البشر، وقد سقطت أميركا في ذلك على الرغم من تقدمها وحضارتها وعلمها وقوتها، وذانك العمى والغرور منعاها عن رؤية التطورات الحقيقية التي تجري في السعودية ودول الخليج والدول العربية، واختارت أن تتجاهل كل التصريحات والمؤشرات التي تحدثت عن مللٍ واشمئزازٍ من سياسات أميركا فيما يتعلق بالتسليح والدفاع وفي الضغوط لنشر القيم الأخلاقية الشاذة وفي الهجمات المنظمة إعلامياً وأكاديمياً وثقافياً ضد هذه الدول كما في تجاهل مصالح هذه الدول وأمنها واستقرارها وسيادتها.
في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية الغربية لا تخطئ العين رصد التخوف الغربي عموماً والأميركي تحديداً، من انفتاح السعودية ودول الخليج والدول العربية على الصين، وهو تخوّفٌ له ما يبرره، فهذه الدول دول ذات إمكانيات كبرى وتأثير دوليٍ وانفتاحها على الصين بالغ التأثير على موازين القوى الدولية في جميع المجالات، ولكنهم جميعاً - الغرب وأميركا - وعلى الرغم من كل تلك التخوفات لم يسعوا للفهم والاستيعاب ثم بناء السياسات والاستراتيجيات والعلاقات الدولية مع المنطقة بشكل جديد واكتفوا بالتكرار والنصائح الأخلاقية والسياسية التي لم تعد تقنع أحداً في المنطقة.
الاقتصاد لا السياسة أولوية المنطقة ودولها الصاعدة بقوة... التنمية لا الآيديولوجيا هي سبيل التواصل والتفاهم مع هذه الدول، وحجم التناقضات السياسية الغربية في المنطقة لم يدع مجالاً لأحدٍ بادعاء عدم الفهم أو عدم الإدراك لمآلات هذه السياسات في المستقبل القريب والبعيد.
ما جرى في القمم الثلاث ليس مجرد تواصلٍ عابرٍ أو علاقاتٍ محدودةٍ بل هو شراكةٌ استراتيجيةٌ طويلة الأمد في المستقبل وواسعة الحجم في المجالات كافة، مع التأكيد الدائم والصريح لدول المنطقة أنها لا تتخلى عن حلفائها التقليديين في الغرب، بل تبني جسور التواصل الحضاري والاقتصادي مع كل دول العالم والدول العظمى منه على وجه التحديد.
حديث الرئيس الصيني عن السلام والأمن والتنمية والعدالة والتسامح وجد آذاناً صاغية وقيماً مشتركةً وإرثاً حضارياً وطموحاً مستقبلياً لدى قادة السعودية ودول الخليج والدول العربية، وهو عكس أحاديث بعض الغربيين العاجزين عن رؤية أي نماذج ثقافية أو حضارية أو سياسية في العالم إلا من ثقب «الديمقراطية الغربية» بوصفها «نهاية التاريخ» و«نهاية إقدام العقول».
دول الخليج وعلى رأسها السعودية دول شابة باعتبار أكثرية السكان، وهم فخورون بدولهم متفانون في حب وطنهم ومشغولون ببناء مستقبلهم، ولهذا فربما لا يدرك بعضهم ضخامة وتاريخية ما تصنعه بلادهم داخلياً وإقليمياً ودولياً. ولكنهم سيفعلون قريباً، فما يجري ليس قراراً منفرداً، بل منهج متكامل، وليس اتجاهاً منعزلاً، بل استراتيجية شاملة، وليس قراراً لحظياً، بل خططٌ ممتدةٌ في المستقبل.
في الملفات المهمة في المنطقة مثل «الملف الإيراني» و«الملف اليمني» و«أسواق الطاقة» وأمن الممرات المائية، واحترام «السيادة» و«الاستقلال» ومراعاة مصالح الدول وضرورات التنمية وبناء الشراكات العملية معها ورفض «الأصولية» و«الإرهاب» تبدو الصين أكثر تفهماً وتقارباً مع دول المنطقة من غيرها من الدول الكبرى في العالم، وبالتالي فهذا التوافق الواسع كان يجب أن يتجسد عملياً في استراتيجية شاملة واتفاقيات واسعة ومجالات متعددة، وهذا تحديداً ما جرى في القمم الثلاث في الرياض.
بعض ردود الفعل التي خرجت من بعض الدول الغربية فاقدة للاتزان والواقعية والعقلانية وهي تعبر عن عجزٍ عن رؤية التغيرات الكبرى في العالم وفي الشرق الأوسط تحديداً، ولكنها لن تلبث أن تهدأ وتفتش عن طريقٍ آخر.
أخيراً، فالسعودية ودول الخليج وغالب الدول العربية لا تريد أن تكون ضمن محورٍ دوليٍ ضد آخر، ولا أن تنخرط في استقطابات دوليةٍ مع طرفٍ ضد آخر، بل هي ببساطة شديدةٍ تسعى لبناء قوتها التنموية والاقتصادية والسياسية بالتواصل مع دول العالم كافة كبيرةً كانت أم صغيرةً، وهي لا تقبل الإملاءات والاشتراطات والآيديولوجيات على اختلاف أشكالها وأنواعها.