أوروبا ربما تكون في طريقها نحو أمر يتعذر تخيله

منذ 11 أشهر 133

مع اقتراب عام 2023 من نهايته، ثمة شعور مزداد بالذعر يجتاح أوروبا. منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، كان الاتحاد الأوروبي منهمكاً في تعزيز هذا البلد - الأمر الذي يجري النظر إليه على نطاق واسع باعتباره ضرورة جيوسياسية - وبالإصلاحات الداخلية اللازمة لجعل ذلك ممكناً. إلا أنه على مدار هذا العام، ومع توقف الهجوم الأوكراني المضاد الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة، تصاعدت التوترات بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي.

ومع اختلاف الأعضاء حول عدد من القضايا، مثل سياسة المناخ والحرب في غزة، ظهرت صدوعٌ في جدار الوحدة الأوروبية حول دعم أوكرانيا كذلك. ومع عدم وجود نهاية للحرب في الأفق، كثف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان جهوده للحد من دعم التكتل الأوروبي لأوكرانيا، ووفر له انتخاب روبرت فيكو في سلوفاكيا حليفاً آخر في هذا الصدد.

وحمل الشهر الماضي صدمة أكبر تمثلت في تحول حزب خيرت فيلدرز، اليميني المتطرف، أكبر قوة بالبرلمان الهولندي. وبغض النظر عن مدى قدرة تولي فيلدرز على تشكيل حكومة جديدة، فإن أداءه القوي قد يشعل مزيداً من الاضطرابات في أوروبا، وفي أوكرانيا وغير ذلك الكثير.

وللنخب الأوروبية كل الحق في الشعور بالقلق، بيد أن التركيز على الانقسامات داخل الكتلة يحجب تطوراً أكثر إثارة للقلق يعتمل تحت السطح: التقارب بين يمين الوسط واليمين المتطرف، خصوصاً حول المسائل المتعلقة بالهوية والهجرة والإسلام. ومع الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقررة العام المقبل، فإن هذا التقارب يسلط الضوء بشكل أكثر وضوحاً على إمكانية ظهور ما يشبه الاتحاد الأوروبي اليميني المتطرف. حتى وقت قريب، بدا مثل هذا الأمر غير وارد الحدوث، لكن الآن أصبح الأمر يبدو معقولاً بشكل واضح.

على امتداد العقد الماضي، كانت السياسة الأوروبية يجري فهمها على نطاق واسع من منظور التعارض الثنائي بين الليبرالية والعداء لليبرالية. خلال أزمة اللاجئين خلال عام 2015، على سبيل المثال، كان يجري النظر إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وأوربان باعتبارهما يقفان على طرفي نقيض سياسياً - فهي زعيمة الليبرالية، وهو زعيم اللاليبرالية. ومع ذلك، كان حزباهما «حزب الديمقراطيين المسيحيين» من يمين الوسط وحزب «فيدس» (الاتحاد المدني المجري) اليميني المتطرف، في التجمع نفسه داخل البرلمان الأوروبي، «حزب الشعب الأوروبي»، بمعنى أنهما كانا حليفين سياسيين. (جرى تعليق عضوية حزب «فيدس» عام 2019، ثم انسحب أخيراً عام 2021).

ومنذ ذلك الحين، ذهب التقارب بين يمين الوسط واليمين المتطرف في أوروبا إلى أبعد من ذلك. أما الدرس الذي استخلصته أحزاب يمين الوسط من صعود التيارات الشعبوية اليمينية، أنها بحاجة إلى تبني بعض خطاباتها وسياساتها.

وعلى النقيض من ذلك، أصبحت بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة أكثر اعتدالاً، ولو بطريقة انتقائية. وعلى المستوى الوطني، حكمت أحزاب من المعسكرين معاً، سواء بشكل رسمي، كما الحال في النمسا وفنلندا، أو بشكل غير رسمي، كما الحال في السويد.

ومع ذلك، يبقى المثال الأوضح لهذا التقارب العلاقة المتناغمة بين يمين الوسط الأوروبي وجورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوة إيطاليا» المنتمي لتيار ما بعد الفاشية، التي تولت منصب رئيسة وزراء إيطاليا، العام الماضي. وبمجرد أن أشارت إلى أنها لن تعطل السياسة الاقتصادية للكتلة، وأنها ستدعم أوكرانيا، أبدى «حزب الشعب الأوروبي» استعداده للعمل معها ــ حتى أن زعيمه مانفريد ويبر سعى إلى تشكيل تحالف معها. وبذلك، اتضح أن يمين الوسط ليست لديه مشكلة مع اليمين المتطرف، وإنما لديه مشكلة مع أولئك الذين يتحدون مؤسسات ومواقف الاتحاد الأوروبي.

في الواقع، من الممكن أن يتفق الاثنان حول الكثير من الأمور - الأمر الذي يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في سياسة الهجرة. وعلى النقيض من صورته التقدمية، سعى الاتحاد الأوروبي، مثل دونالد ترمب، إلى بناء جدار - في هذه الحالة، في البحر المتوسط - لمنع المهاجرين من الوصول إلى شواطئه. ومنذ عام 2014، لقي أكثر من 28.000 شخص حتفهم هناك، أثناء محاولتهم اليائسة الوصول إلى أوروبا. من جهتها، قالت منظمة «هيومان رايتس ووتش»، في وقت سابق من هذا العام، إن سياسة الاتحاد الأوروبي يمكن إيجازها في كلمتين: «دعوهم يموتون».

ويعتمد النهج المميز الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي تجاه قضية الهجرة على ما يمكن أن نطلق عليه نقل العنف إلى الخارج. وحتى عندما رحبت القارة بملايين اللاجئين الأوكرانيين، قدم الاتحاد الأوروبي أموالاً للأنظمة في دول شمال أفريقيا لمنع المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من الوصول إلى أوروبا، وغالباً ما جرى تنفيذ ذلك بوحشية. ومن خلال هذا النمط الغريب من الاستعانة بمصادر خارجية، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يستمر في الإصرار على الدفاع عن حقوق الإنسان، التي تشكل أهمية مركزية في صورته الذاتية.

في إطار هذا المشروع، يسير يمين الوسط وأقصى اليمين بخطى ثابتة. وفي يوليو (تموز)، انضمت ميلوني إلى رئيس المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، ورئيس الوزراء الهولندي، لتوقيع إحدى هذه الاتفاقيات مع تونس.

اللافت أن تماهي الحدود الفاصلة بين يمين الوسط واليمين المتطرف ليس من السهل رصده دوماً، كما هي الحال داخل الولايات المتحدة. ويرجع ذلك لأسباب منها أن هذه العملية دقيقة للغاية. إلا أن ذلك يرجع كذلك إلى النظرة السطحية لليمين المتطرف باعتباره قومياً، ما يجعله يبدو غير متوافق مع مشروعات ما بعد القومية، مثل الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، نجد على أرض الواقع أن اليمين المتطرف، اليوم، لا يتحدث نيابة عن الأمة الوطنية فحسب، وإنما يتحدث كذلك نيابة عن أوروبا بأسرها. ويحمل اليمين المتطرف اليوم رؤية حضارية لأوروبا المسيحية البيضاء التي يهددها الغرباء، خصوصاً المسلمين.

ويقف مثل هذا التفكير خلف تشدد سياسة الهجرة، كما أنه يؤثر كذلك على أوروبا بطريقة أعمق: فقد أصبح الاتحاد يرى نفسه على نحو مزداد باعتباره يدافع عن الحضارة الأوروبية التي يتهددها الخطر، خصوصاً على صعيد سياساته الخارجية.

خلال العقد الماضي، بينما كان الاتحاد يعدُّ أنه محاط بالتهديدات، خصوصاً من قبل روسيا، دارت مناقشات لا نهاية لها حول «الاستقلال الاستراتيجي»، و«السيادة الأوروبية»، و«أوروبا الجيوسياسية». إلا أن شخصيات مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شرعت كذلك في تأطير السياسة الدولية باعتبارها تقوم على فكرة صراع الحضارات، على نحو يفرض على أوروبا القوية الموحدة أن تدافع عن نفسها.

وفي هذا الصدد، لا يقف ماكرون بعيداً عن الشخصيات اليمينية المتطرفة، مثل فيلدرز الذي يتحدث عن الحضارة الأوروبية المهددة. وقد يكون نجاح فيلدرز الانتخابي في هولندا بمثابة مقدمة، كما يخشى كثيرون، لتحول كبير باتجاه اليمين في الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقررة في يونيو (حزيران) المقبل. وهذا من شأنه أن يمنح اليمين المتطرف سلطةً كبيرةً لتشكيل المفوضية المقبلة حتى أكثر عما عليه الحال في المفوضية الراهنة، سواء بشكل مباشر، مع إمكانية وصول شخصيات من اليمين المتطرف إلى المناصب العليا، أو بشكل غير مباشر، مع التعبير عن مخاوفه عبر قنوات يمين الوسط.

من جانبهم، يميل أنصار الاتحاد الأوروبي إلى النظر إلى الوحدة الأوروبية باعتبارها غايةً في حد ذاتها ــ أو إلى افتراض أن الاتحاد الأوروبي الأقوى، الذي ظل لفترة طويلة مثالياً باعتباره قوة حضارية في السياسة الدولية، من شأنه أن يعود بالنفع على العالم بأسره تلقائياً.

إلا أنه في الوقت الذي يحتشد الاتحاد حول الدفاع عن الحضارة الأوروبية المهددة ورفض الهجرة غير البيضاء، يتعين إعادة التفكير حول ما إذا كان الاتحاد قوة تعمل من أجل الخير حقاً.

* خدمة «نيويورك تايمز»