يومُ التحرير الترمبي

منذ 3 أيام 34

العيشُ طيلة أربعين عاماً وأزيد تحت حُكم العقيد معمر القذافي، يجعل المرءَ يتعود التعامل مع المعاجم السياسية الديماغوجية (الغوغائية) بشيء من عدم المبالاة وبكثير من الحذر في آن. ذلك أن العقيد القذافي، مثل غيره من الغوغائيين؛ حرص على نحت معجمه الغوغائي الخاص. إذ رغم التشابه بينهم في كثير من الأوجه، يتميّز كل غوغائي بخاصّية معيّنة. العقيد القذافي كان طوال فترة حكمه يحرص على إظهار نفسه بصفة «القائد المُفكر». ذلك الحرص، تحديداً، دفعه إلى تأليف كتابه الأخضر بأجزائه الثلاثة. إذ لا يمكن الادعاء بكونه مفكراً من دون أن يقدم الإثبات على ذلك. الكتاب تُرجم إلى أغلب لغات العالم، وتأسس مركز خاص به، أُطلقَ عليه اسم «مركز دراسات وبحوث الكتاب الأخضر».

العقيدُ القذافي، في كتابه الأخضر، تمكن من ابتكار ونحت عالم غريب وفريد من المُسمّيات والحلول البهلوانية لأزمات عالمية سياسية واقتصادية مستعصية، وبهدف إقناع الليبيين والعالم بأن ليبيا بلد ديمقراطي، وأن الليبيين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وأنّه قائد ثورة ومفكر، ولا علاقة له بالحكم والسلطة، كونه سلمهما طوعاً للشعب!!. لكن ذلك العالم كان وهميّاً، لا علاقة له بما كان يحدث في البلاد وفي الواقع من كوارث. وكان عالَماً معلقاً في الهواء بخيط أوهن من خيط عنكبوت. لذلك السبب اختفى وتلاشى لدى اختفاء صاحبه.

القذافي لم يكن الأول في ذلك، وبالطبع لن يكون الأخير. فالديماغوجيون (الغوغائيون) لا يتوقفون عن اعتلاء خشبة المسرح السياسي، واللجوء إلى استراتيجية اللعب على العواطف بالحماسة والأكاذيب وتحريف الوقائع والتاريخ من أجل كسب ولاء الناس؛ لخدمة أهدافهم. ولعل ما يحدث هذه الأيام في أميركا خير مثال.

في الآونة الأخيرة، وبعد قراره برفع الرسوم الجمركية على كل الواردات الأميركية من البضائع والسلع، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب على اليوم الذي تقرر فيه تنفيذ القرار «يوم التحرير». ولا أظنُّ أن أحداً يعرف على وجه الدقة، ما المقصود به.

«يوم التحرير» الترمبي لا يزيد على كونه نعياً بموت النظام الاقتصادي العالمي، الذي عرفه العالم طيلة 80 عاماً. وهو، في الوقت ذاته، إعلان حرب حمائية أميركية على دول العالم دون استثناء، في قارات العالم الخمس. واستناداً إلى خبراء الاقتصاد فإن الضرر منه على المواطن الأميركي أكثر من نفعه ومن خلال متابعة ما تنشره التقارير الإعلامية، كانت الشركات الأميركية أكثر المتضررين منه، وتشهد على ذلك الخسارات في أسواق البورصة الأميركية، وفي غيرها من بورصات العالم. وكل ذلك الضرر حدث بعد البدء في تنفيذ القرار مباشرة.

«يوم التحرير» الأميركي، في رأيي، لا يختلف عن «يوم الاستقلال» البريطاني، الذي أعلنه بوريس جونسون، لدى نجاح الحملة التي قادها خلال الاستفتاء الشعبي عام 2016، وأدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. الآن، وبعد تسع سنوات من «يوم الاستقلال» الجونسوني، يسعى الساسة البريطانيون بخجل، إلى محاولة إعادة روابط بريطانيا ببروكسل.

«يوم الاستقلال»، الذي تبجح به بوريس جونسون، وعمل على تسويقه للبريطانيين، كان مجرد تعبير ديماغوجي، استطاع من خلاله جونسون ومن قادوا معه حملة الخروج خداع أكثر من نصف الشعب البريطاني بأكاذيب طالت كل شيء، وأدّى إلى قطع الجسور مع أوروبا، وتحقيق حلمهم الانعزالي في إقامة جدار يفصلهم عن أوروبا، بِوَهمِ إحياء أمجاد الإمبراطورية البريطانية.

بوريس جونسون طُرد من «10 داوننغ ستريت»، فيما بعد، في يوم مشهود، وخرج معه الانعزاليون. لكن بريطانيا لم تربح قط من الخروج، بل زادت معاناتها من المهاجرين غير القانونيين، وخسرت شركاتها 27 سوقاً أوروبية في 27 دولة أوروبية.

بوريس جونسون كان كل همه الوصول إلى تحقيق حلمه في الإقامة برقم «10 داوننغ ستريت»، وليس مهماً الوسيلة التي تقود إلى ذلك. الديماغوجيا كانت الاستراتيجية الأنسب. وخلال تلك الحملة كان تركيزه على استخدام مصطلح استعادة السيادة البريطانية على رقابة الحدود، وفي القضاء، وحرية القرار السياسي البريطاني، والتوقف عن ضخ الأموال البريطانية في خزائن الاتحاد الأوروبي. وها نحن حالياً على مسافة تقترب من العقد من الزمن، ولا نرى لتلك الوعود ظلاً على الأرض، بل العكس هو الصحيح. ولعل أكبر خسارة تمثلت في خسارة الشركات البريطانية أسواقها الأوروبية، وفشل الحكومات المتعاقبة في عقد شراكة تجارية مع أميركا، وغزو الأسواق العالمية كما كان يزعم الانعزاليون الديماغوجيون.

وعلى ما يبدو، فإن الرئيس ترمب يحاول إعادة الزمن للوراء، ويعيدنا نحن إلى تلك الفترة الزمنية غير البعيدة في التاريخ البريطاني. إذ من غير المنطقي أن يتمّ إحياء المجد الأميركي من خلال مراكمة الخسائر في أرباح وأسهم الشركات الأميركية، أو في إثقال كاهل المواطن الأميركي بأحمال معيشية إضافية، من خلال قرارات سياسية تتسبب في رفع معدلات التضخم. ولن تتمكن كذلك من احتواء الصين، ولن تكون الحلَّ الأنسبَ لتخليص أميركا من ديونها البالغة 36 تريليون دولار.