عن القِلاعِ والحُصون

منذ 19 ساعة 19

القلاعُ سِمةُ المدنِ القديمة. وفي العاصمة الليبية طرابلس الغرب قلعتان؛ الأولى تعود إلى القرن السادس عشر، بناها الإسبان حين احتلوا المدينة في عام 1510. وحين قرروا مغادرة المدينة في عام 1530 سلّموها إلى فرسان مالطا، المعروفين باسم «فرسان القديس يوحنا»، وبقوا فيها إلى أن جاء الأتراك وأجلوهم عنها في عام 1551.

القلعة الثانية حديثة لدى المقارنة بالأولى، وهي ليست قلعة بالمعنى المتعارف عليه، لكننا تجاوزاً أطلقنا عليها الوصف. بناها الإيطاليون بعد احتلالهم للمدينة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1911.

القلعة الإسبانية عُرفت في فترة الحكم العثماني باسم السراي الحمراء، وما زالت تتموضع في وسط المدينة، وتحوّلت إلى متحف وطني. القلعة الإيطالية صغيرة الحجم، وبعد الاستقلال صارت مقرّاً لمصرف ليبيا المركزي.

القلاعُ في المدن القديمة عموماً وُجدت في الأصل لتكون مقراً للحاكم. وفي العادة تكون محاطة بأسوار لحمايته والأهالي. وهناك قلاع بُنيت وشُيدت خارج المدن كتلك المقامة في مفارق الطرق المهمة، وبخاصة التجارية بغرض توفير الحماية ونشر الأمن للقوافل التجارية. وهناك قلاع تسمى في الأغلب حصوناً مخصصة لإقامة الجند، تتمركز بها حاميات من الجند لحماية الحدود من غارات الأعداء.

حين احتل الإيطاليون ليبيا شيدوا قصراً خارج سور المدينة، صار مقراً للحاكم العسكري الإيطالي. وبعد الاستقلال في عام 1951 صار يُسمى قصر الخُلد العامر، ومقرّاً لإقامة الملك الراحل إدريس الأول، حين يكون مقيماً بطرابلس. وبعد الانقلاب العسكري في عام 1969، أطلق الحكم العسكري الجديد على القصر اسم قصر الشعب. واختار قائد النظام الإقامة في معسكر باب العزيزية والذي تحوّل بدوره إلى حصن منيع، ومركزاً للحكم. وفي وسط تلك القلعة، نصب القائد خيمة يلتقي فيها ضيوفه، وصار ينقلها معه في زياراته الخارجية. وهذا لا يعني تخليه عن قلعة السراي الحمراء؛ إذ كان يحرص على استعادة أمجاد الولاة والحكام، بإقامة سهرات غنائية فيها، خاصة به وبطانته من رجال الخيمة، يدعو لها مطربين معروفين.

قلعة السراي الحمراء تحولت من قلعة عسكرية إلى رمز للحكم، ومن رمز للحكم إلى متحف. ومعسكر باب العزيزية تحوّل إلى أرض جرداء، بعد أن دُكت أسواره وتحوّلت إلى أنقاض في مزبلة التاريخ.

القلعة الإيطالية الصغيرة اكتسبت أهمية بتحوّلها إلى حصن منيع تتكدس داخل خزائنه أموال الليبيين. وزادت أهميتها، بخاصة في السنوات التي أعقبت انتفاضة فبراير (شباط) 2011.

تتكئ السراي الحمراء على ماضٍ دموي، حيث كانت محط صراعات على السلطة بين الولاة الأتراك وضباط الانكشارية، ثم فيما بعد كانت ميداناً لصراعات على الحكم بين أفراد الأسرة القره مانللية إلى حين سقوطها في عام 1835 وعودة الحكم العثماني المباشر.

القلعة الصغيرة المسماة مصرف ليبيا المركزي تحولت هي الأخرى إلى ميدان للصراعات على السلطة في العاصمة. وخلال الأشهر الأخيرة، بدأت تشهد حلقة جديدة من مسلسل الصراعات، بخروج المحافظ الصديق الكبير مهزوماً بعد إقامة 14 عاماً، ودخول محافظ جديد، ليس بدهاء وحنكة الصديق الكبير، والذي استطاع بمرور الوقت تحويل المقر إلى قلعة سياسية ومالية، يتحكم فيها في مقدرات كل ليبيا، وليس العاصمة فقط. وكان يأتي برؤساء الحكومات ويطيح بهم كما شاء.

نجح الصديق الكبير في الحفاظ على القلعة، حتى صار يعرف باسم صاحب القلعة. ونجح في منع تسلل الجماعات المسلحة داخلها. إلا أن هزيمته وخروجه أديا إلى تحقيق الجماعات المسلحة حلمها في الحصول على موطئ قدم داخلها.

خلال فترة الأسابيع الماضية، تعرضت القلعة إلى هزّة مالية شديدة وخطيرة، نتيجة عمليات الإنفاق غير المتوازن من قبل حكومتين متنافستين. وأدى ذلك إلى إعلان حالة الطوارئ وتخفيض قيمة الدينار الليبي بنسبة 13.3 في المائة، وصار الآن رسمياً يساوي كل 5.56 دينار دولاراً أميركياً واحداً، مضافاً إليها ضريبة أخرى بنسبة 15 في المائة.

القلاع وجدت في الأصل للحماية. والقلعة المصرفية في ليبيا فشلت في توفير الحماية لخزائن وثروات الشعب الليبي، بل أدت إلى التعرض للاحتياطي النقدي بالسحب، بغرض حماية الدينار الليبي. اللافت للاهتمام أن الإنفاق الحكومي في الغرب والشرق من البلاد تسرّب أكثره إلى جيوب المسؤولين والسماسرة وقادة الجماعات المسلحة. وعلى المواطنين الليبيين تحمل تبعات الإنفاق والسرقة، ودفع التكاليف.

حين تفشل القلاعُ والحصونُ في توفير الحماية للمقيمين بها، تُهجر وتتحول إلى خرائب، أو تتجنب ذلك المصير وتصير متاحف، هذا إن واتاها حسُن الحظ. وقلعة مصرف ليبيا المركزي تتعرض لأسوأ أزماتها منذ إنشائها. فهل تتجنّب مصير القلاع والحصون الفاشلة وتصمد في وجه تتالي غارات النهب والفساد؟