"وليلي"... أطلال مغربية تخفي تمازجا حضاريا

منذ 1 سنة 161

تعد مدينة "وليلي" من أقدم المعالم التاريخية والأثرية في المغرب والعالم أيضاً، إذ إن تأسيس هذه المدينة التي يطلق عليها اسم "فولوبيليس" باللاتينية يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وسكنها القرطاجيون والرومانيون قبل أن تصبح بعد ردح من الزمن "أثراً بعد عين".

وبعد كل المجد التاريخي الذي حازته مدينة "وليلي" عبر الزمن، وبعد مرور كل الأقوام والدول التي عاشت فيها، أضحت أطلالاً تاريخية، لكنها أطلال تضج بالحياة والعراقة، يستهدفها آلاف السياح للاطلاع على جزء من تاريخ المغرب القديم.

شيء من التاريخ

يقول المؤرخ والأكاديمي بجامعة مكناس إبراهيم القادري بوتيش إن الحفريات والنقوش والكتابة البونيقية كشفت عن أن القرطاجيين هم أول من استوطن "وليلي" في القرن الثالث قبل الميلاد، وفي وقت لاحق (تقريباً عام 42 م) تم إلحاق المدينة بالإمبراطورية الرومانية، وبخاصة في عهد الإمبراطور كاركالا (193- 200 م).

ويضيف بوتشيش "بدأت المدينة في النمو خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين حتى غدت العاصمة الإدارية، فتوسعت إلى حدود 42 هكتاراً (0.42 كيلومتر مربع)، وبلغ سكانها 20 ألف نسمة من أعراق مختلفة، رومانيين وغاليين وإسبانيين ويونانيين وسوريين وقرطاجيين ويهود، حيث اختلط جميعهم بالأهالي الموريين، ثم انسحب الرومان منها عام 285 ميلادية، نتيجة ثورة سكانها الأمازيغ".

وتابع القادري "عندما وصل العرب إلى المغرب عام 708 ميلادية وجدوا المدينة مأهولة بمختلف الأجناس بمن فيهم قبائل عربية، وفي القرن الثامن الميلادي لجأ إدريس الأول إليها بعد هزيمة أتباعه في معركة فخ، وبطريقة مخطط لها سلفاً اتصل بقبائلها الأمازيغية التي كان يرأسها عبدالحميد بن إسحاق الأوروبي ونجح في تولي زمام السلطة فيها، لكنه تخلى عنها بعد مدة قصيرة عندما شرع في بناء مدينة فاس، ففقدت نتيجة لذلك وزنها الإداري".

ولفت بوتشيش إلى أن مدينة "وليلي" عرفت بعض الكوارث الطبيعية بخاصة زلزال لشبونة الذي وصلت آثاره إلى المغرب، فدمر جزءاً كبيراً من مبانيها، كما تعرضت لزلزال آخر في القرن التاسع عشر فاقم خسائر المباني، موضحاً أنه "منذ ذلك الحين دخلت المدينة دائرة النسيان في البحث الأركيولوجي حتى إن ظهر اسمها في لائحة الباحثين الأثريين".

أطلال وآثار

ويكمل المؤرخ المغربي حديثه بالقول إن شارل تيسو وهو دبلوماسي فرنسي تم إقناعه بالتوجه نحو علم الآثار، هو مكتشف مدينة "وليلي"، وفق كتابه "أبحاث في الجغرافيا المقارنة لموريتانيا الطنجية" عام 1878، والذي ما زالت سرديته مهيمنة على البحث الأركيولوجي للمدينة التي صنفت منذ 1997 تراثاً عالمياً إنسانياً ضمن لائحة التراث العالمي في اليونيسكو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونوه المتحدث بظهور بعض الأصوات الوطنية المنتقدة مركزية فكرة "رومنة المدينة"، وتركيز البحث الأثري الكولونيالي على المرحلة الرومانية أكثر من المراحل الأخرى، إلى حد أن بعض الآثار الإسلامية مثل الحمام الإدريسي ظل لردح من الزمن يعتقد أنه كنيسة مسيحية.

واستطرد القادري القول إنه "وفقاً للأبحاث الأركيولوجية المنجزة تظل الآثار الرومانية هي الغالبة في وليلي، وأبرزها قوس كاركالا الذي تم بناؤه عام 217 ميلادية والمعبد الرسمي وقصر كورديانوس، وكذلك ساحة الاجتماعات أو المداولات (Forum) التي كانت تمثل قلب الحياة العمومية والإدارية، ومبنى البازيليك (Basilique) وهو مجال عمراني كان مخصصاً للاجتماع والمتاجرة، فضلاً عن مبنى (الكابيتول) الذي كان مقر السلطة بأعمدته الشامخة"، لافتاً إلى معاصر الزيتون والحمامات والأنصاب الصخرية التي تؤرخ لأحداث واتفاقيات بين قادة وزعماء وملوك.

وأشار بوتشيش إلى وجود منزل يحتوي على رسوم أعمال هرقل، ومن بينها الأمير الأسطوري "جانميد" وقد رفعه نسر كبير، حيث "تقول الأسطورة إن ذلك النسر هو إله الآلهة تزوس، كما رسمت تجسيدات لفصول السنة، وصور لأعمال هرقل الـ12 داخل ميداليات، بينما الآثار الدينية تتجسد في معابد موقعة بتراتيل دينية ونفحات أسطورية، وتبتلات لآلهة كان يعتقد أنها تنعش الحياة وتهب الأرزاق".

وأوضح القادري أن "المعالم العمرانية التي زينت بالفسيفساء والنقوش كانت في الأحياء الراقية الواقعة شمال شرقي وليلي، وكانت أغلب باحاتها بأعمدة ملساء أو حلزونية وفسيفساء تعطي منظر لوحات فنية جميلة تعبر عن مواضيع مختلفة، في حين كان شمال غربي الساحة العمومية يحتوي على الحي الشعبي أو الموري الذي يقيم فيه السكان في بيوتات صغيرة وأزقة ضيقة تنتشر على جنباتها دكاكين الخبازين والمعاصر، وبائعو الحنطة والزيتون والصناع التقليديون".

وذهب أستاذ التاريخ بجامعة مكناس إلى أنه بالنسبة إلى العصر الإسلامي، خصوصاً في عهد الدولة الإدريسية، تم العثور على مقبرة ومنزل لمسلمين شرق قوس النصر، ولا يزال بحسب الباحثين المتخصصين نحو 25 في المئة من المدينة الأثرية مغموراً في التراب، وقد تكون الآثار الإسلامية جزءاً منه، وفق بوتشيش.

متحف وسياحة

ولا يمكن مغادرة مدينة "وليلي" من دون العروج على متحفها الذي يشد أنظار عشاق التراث والتاريخ بما يحويه من قطع أثرية ثمينة، ومعروضات عسكرية وأسلحة حربية تجسد حضارة عريقة، ويسهم في تعريف الزوار بجوانب مختلفة من الحياة اليومية التي عاشها سكان المدينة.

يورد بوتشيش في هذا السياق أن متحف "وليلي" يعرض الألبسة التقليدية، كما يضم بقايا الآثار الرومانية واللقى، ومجموعة من القطع المعدنية والتماثيل البرونزية للحكام والقادة والجنود ورسوم الآلهة، وكذلك الأواني الطينية والمنزلية والصناعات الفخارية والطواحين اليدوية والأفران المعدة لطهي الخبز، فضلاً عن أشرطة مرئية تبث عبر الشاشات، لتجعل تحت الضوء مسار مدينة تاريخية، ومنطقة إنتاج فلاحي مزدهر يعكس تطور طرق الاستغلال الفلاحي والإنتاج الحرفي.

وتحاول السلطات المغربية جذب مزيد من السياح إلى "وليلي" عبر تنظيم مهرجان موسيقي يناسب عراقة المدينة، إذ يتم تنظيم مهرجان وليلي الدولي لموسيقى العالم التقليدية، والذي يشبه مهرجان جرش بالأردن ومهرجان قرطاج بتونس، من حيث الارتباط بالمكان الأثري الذي يحتضنه.

وتعتبر وزارة الثقافة أن مهرجان "وليلي" يعد "فرصة للفت الانتباه إلى الخصائص السياحية والحضارية والتاريخية للمواقع والفضاءات المجالية والجغرافية التي يحتضنها الموقع الأثري، والمساهمة في تعزيز الإشعاع الثقافي والفني لهذه المناطق، وإدماجها في محيطها الاقتصادي والاجتماعي".