"الرجل لا يبكي"، يقولها الوالد لنجله الصغير والأم لابنها الشاب، أو الزوجة لزوجها، أو يؤنب بها الولد الباكي بعبارات التنمر، فيشبه بالفتيات الضعيفات، أو يقال له إنه لن يصبح رجلاً قوياً إذا بكى.
والذكر سواء طفلاً أو مراهقاً أو شاباً أو رجلاً يتعلم منذ تفتحه على الحياة أنه كي يكون قوياً وبطلاً في المستقبل يجب عليه ألا يبكي مهما كان السبب وتصله هذه الرسالة بطرق غير مباشرة أيضاً بسبب تربيته في مجتمع ذكوري يمنح الرجل صفات الحامي والمدافع عن الشرف أو عن سلامة المجموعة، سواء كانت عائلته الصغيرة أو الحي والبلدة، وسواء تربى في عائلة يفرض الأب فيها سلطته بقوة العنف أو التشدد في تربية الذكور على الخشونة، أو في غيرها.
وتحت ضغط هذه التوجيهات الصارمة والمعممة في مجتمعه يمتنع عن البكاء حتى في المناسبات الأكثر حزناً، محاولاً عدم الظهور بمظهر الضعيف الذي يتصرف كالنساء بينما تقع عليه مسؤولية مواجهة الشدائد، وبالطبع فإن الصبي الباكي سيلقى تنمراً واسعاً من أقرانه الملتزمين عدم البكاء. وربما سيبكي وحيداً من دون أن يراه أحد وربما لا يبكي أبداً بسبب قناعته بأن الرجل لا يبكي، لكنه في كل هذه الأحوال يفقد واحدة من الطرق التي تساعده على التخفيف من الألم والضغط اللذين يسببهما كبت المشاعر المؤدي بدوره إلى أضرار نفسية جانبية قد تتحول إلى أمراض جسدية.
تقول اختصاصية علم النفس العصبي جودي ديلوكا، "عندما تبكي، فهذه إشارة تحتاج إلى معالجة أمر ما، إما أن تخرج في شكلها الصحي على شكل دموع أو إذا تم كبتها يمكن أن تسبب عدداً من الأعراض الجسدية".
أستاذ الطب النفسي في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب Real Boys ويليام بولاك يقول إن تعليم الأولاد هذا النوع من كبت المشاعر هو محاولة مبكرة لإضفاء صفات اجتماعية على شخصياتهم ليتمكنوا من أداء الأدوار المطلوبة منهم في الحياة.
ويرى أن ترك الأولاد يتصرفون كالأولاد، أي بما تمليه عليه غرائزهم الطفولية بحجة عدم كبت تعبيرهم عن أنفسهم، هو السبب الرئيس في الزيادة السريعة لأعداد الأطفال المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه والاكتئاب.
وقال بولاك في مؤتمر أكاديمية نيويورك للعلوم حول الحد من عنف الشباب إنها "أمراض نخلقها في المجتمع" ويسميها "الأزمة الصامتة"، إذ يبدو الأولاد سعداء وأقوياء وواثقون لكنهم في الحقيقة مكتئبون ووحيدون وأحياناً عنيفون. وينصح الآباء بالاستغناء عن فكرة تعريض الأولاد لضربات قاسية كي يتمكنوا من مواجهة المصاعب والاستقلال عند بلوغهم سن الرشد.
بكاء الفتيات وبكاء الصبيان
على رغم أن سبب بكاء البشر لا يزال لغزاً من نواح كثيرة، أظهر باحثون أن الرجال أقل احتمالاً بكثير للبكاء من النساء عبر 35 دولة وأربع قارات، وتبين في هذه الأبحاث أن الفتيات يكملن على نسبة البكاء نفسها بعد عمر الـ11 سنة بينما تنخفض بشدة لدى الصبيان الذين يلقنون أنهم صاروا كباراً والصبيان الكبار لا يبكون، وفي تلك السن تبدأ علاقات اجتماعية بالنشوء تقوم على كبت المشاعر القوية وعلى اعتبار البكاء سلوكاً "أنثوياً".
ومع اختلاف هذه المقارنات من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى إلا أنه في الغالب يتوقع من الرجال كبت العواطف والرزانة في معظم المواقف ولدى معظم التقاليد الاجتماعية حول العالم، في حين تتمتع الإناث بحرية التعبير عن عواطفهن في العلن والبكاء بلا قيود، بل في بعض الأحيان عليهن الإكثار من البكاء وتعبيرات الحزن كي يتنافسن مع الأخريات في إظهار عواطفهن الجياشة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينت معظم الدراسات النفسية حول بكاء الجنسين وعلى ماذا يرتكز أن الإناث يدفعهنّ إلى البكاء ما يتسبب بالحزن أكثر مما يتسبب بالغضب أو بالتعاطف، والبكاء المتكرر بسبب الحزن يؤدي إلى الاكتئاب عموماً بينهن. أما بالنسبة إلى الذكور، فتبين أن الاكتئاب يزيد من احتمالية البكاء الغاضب. كما أن الرجال المكتئبين أكثر تردداً في مناقشة البكاء مع أطبائهم ويفضلون مناقشة أعراض حزنهم وغضبهم بدلاً من ذلك. والسبب هو تمكن الذكور من تبديل البكاء بالغضب وهي عملية تقليب للمشاعر وتوجيهها ويتم إظهار الغضب لدى الذكور من خلال التمثيل العدواني، سواء كان لفظياً أو جسدياً.
وكشفت الدراسات عن أن الصبيان الذين كانوا أقل نمطية "ذكورية" كانوا هم أيضاً أكثر تردداً في البكاء، وهذا ينفي دور التربية الذكورية بحد ذاتها في امتناع الصبيان عن البكاء، لتضاف إليها معايير أوسع من العائلة الضيقة إلى التمييز بين الجنسين التي يتلقاها الأولاد والبنات من المجتمع الأوسع سواء في المدرسة أو في العائلة، ومن خلال الألعاب الإلكترونية أو الألعاب المادية التي تحدد للبنات ماهية اللعبة التي تبرع فيها ونوعيتها، وتحدد للصبيان الألعاب الخاصة بهم التي تدفعهم إلى استخدام قدراتهم الجسدية كوسيلة لتعبير مناقض لتعبيرات الفتيات.
الشعور السلبي
وهناك مناسبات معينة تقع بشكل دوري في احتفالات أو مهرجانات أو مناسبات دينية واجتماعية يكون فيها البكاء واجب على الجميع ووسيلة تنفيس مهمة للذكور كي يعبروا عن المكبوت من البكاء على مدى العام، وهذا النوع من المناسبات السنوية الفولكلورية موجودة في مختلف المجتمعات التقليدية حول العالم ومنذ ملحمة غلغامش الآشورية إلى أسطورة أدونيس وعشتروت المتكررة في مختلف ثقافات المتوسط بأسماء مختلفة، حتى المناسبات الدينية السماوية مثل الصلب لدى المسيحيين وعاشوراء لدى المسلمين الشيعة، ومناسبات الدعاء والابتهال التي يكون البكاء عنصراً أساسياً فيها للتعبير عن تواضع البشر أمام خالقهم.
روميو فيتيلي طبيبة نفسية كندية تسأل أنه على رغم الأبحاث الضئيلة حول الآثار الصحية للبكاء فإن وسائل الإعلام الشعبية تروج للبكاء على أنه مفيد وصحي، لكن هل هو كذلك؟
حاول باحثون وعلماء نفس من مختلف الثقافات الإجابة عن هذا السؤال في دراسة بعنوان "هل يبكي الكبار؟" أجرتها مجلة Vingerhotes، وجاءت النتائج مختلطة وغير حاسمة.
من منظور جسدي، البكاء ليس له أي تأثير في معدل ضربات القلب أو يزيده ولا يؤدي إلى التخلص من منتجات التمثيل الغذائي السامة كما يعتقد كثيرون، ولا يؤثر البكاء في مستويات هرمونات الغدة النخامية لإفراز ما قد يسبب الراحة أو السرور، لكن علماء النفس يجدون فائدة معينة للبكاء لن يجدها أطباء البيولوجيا، وهي أن البكاء يجعل الآخرين أكثر تعاطفاً وتكاتفاً وتضامناً وتعبيراً عن عواطفهم تجاه بعضهم بعضاً.
لكن لماذا يدخل بعض الناس عمداً في سلوكيات البكاء؟ في الأفلام الحزينة مثلاً، أو في مناسبات العزاء أو مناسبات التفجع على حدث تاريخي. الإجابة المتفق عليها عموماً هي "لأن العالم يبدو أكثر إيجابية بعد تحفيز المزاج السلبي".