التاريخ في حقيقته ما هو سوى تسلسل الأيام ومضي الزمان، إلا أن المؤرخين يقسمونه إلى عهود مختلفة لدراسة التغييرات التي تطرأ عبر الأزمنة. وعادة ما يقسم إلى ثلاثة عهود: العهد القديم، والقرون الوسطى، والعصر الحديث، وتختلف حضارات العالم في نظرتها وتقييمها لهذه العهود. فالعهد القديم كان يمثل التفوق المدني لحضارة بلاد الرافدين وحضارة مصر واليونان، والقرون الوسطى تعد من أفضل فترات التاريخ الإسلامي، أما العصر الحديث فقد تفوقت فيه الحضارة الأوروبية وسبقت جميع الحضارات الأخرى.
أوروبا في القرون الوسطى
يمتد عصر القرون الوسطى في أوروبا إلى القرن الـ15 الميلادي، والذي كانت تسيطر فيه الكنيسة على جميع نواحي الحياة، حتى إنه على رغم تطلع علماء عصر النهضة للعلوم الحديثة لم يجدوا لأنفسهم ولأمتهم مخرجاً من المأزق الذي كانوا يعيشون فيه بسبب قيود الكنيسة.
هذه الأوضاع القاتمة دفعت بعضهم، ومنهم الشاعر المشهور فرانشيسكو بتراركا (الوفاة: 1374م) إلى تسمية القرون الوسطى بالعصور المظلمة، أي العصور التي لم تكن لديها ما تقدمه للأجيال القادمة.
ساد هذا الرأي الذي كان يقلل من أهمية القرون الوسطى فترة طويلة، لكن كما هي طبيعة التاريخ فلا توجد فيه آراء قطعية ونهائية، بل إن نظرة الناس للوقائع والحوادث التاريخية تتغير بتغيير الزمان وظهور الاكتشافات الجديدة، وهذا ما حدث، حيث بدأت نظرة المؤرخين تتغير تجاه تلك القرون في أثناء الحركة الرومانسية، واعتبروها بعد ذلك من أهم فترات التاريخ الإنساني.
ما زالت الأبحاث مستمرة في هذا المجال، وتثبت الدراسات الجديدة التي تجريها الجامعات الأميركية والأوروبية اليوم أن كثيراً من المؤسسات والتقاليد الحديثة ما هي إلا امتداد لمثيلاتها في القرون الوسطى، لكن على رغم أهمية هذه الحقبة، ما الذي جعل العلماء الأوائل يصفونها بالعصور المظلمة وما مدى سيطرة الكنيسة على الحياة العامة آنذاك؟
سيطرة الكنيسة
بعد زوال الإمبراطورية الرومانية أصبحت روما تحت تصرف البابا الذي كان يتمتع، بفضل منزلته الدينية والروحانية، بنفوذ هائل في العالم المسيحي، وكانت أوامره تنفذ في جميع أقطاره.
كانت الكنيسة لها الحق في تعيين ملوك أوروبا وإزاحتهم من عرشهم. والجامعات الأوروبية أيضاً في ذلك الوقت مثل جامعة بادوفا وجامعة بيزا وجامعة باريس، كانت تابعة للكنيسة، وكانت مناهجها مصبوغة بالطابع الديني، حتى إن القديس توما الأكويني (توفي عام 1274م) حرف فلسفة أرسطو لتوافق العقيدة المسيحية، والتي كانت جزءاً مهماً في المناهج الدراسية آنذاك.
الحفاظ على وحدة العالم المسيحي كان من أولويات الكنيسة، حيث كان البابا يريد إنشاء وحدة سياسية تضم جميع الدول المسيحية، وكانت الكنيسة تسعى دائماً إلى المحافظة على وجودها بالقوة التي كانت تستمدها من الدول المسيحية، ولهذا لم تكن لأية دولة أوروبية مسيحية صفة مستقلة أو تاريخ خاص، وكان البابا – وليس الملك - هو من يقر التعيينات المهمة في الدولة وفي الكنيسة. وفي حال ظهور فرقة دينية جديدة، لم تكن الكنيسة تحتمل وجودها، بل كانت تسحقها بقوة من أجل الحفاظ على الوحدة.
الجهود العلمية في ذلك الوقت كانت كلها تنصب في خدمة الكنيسة وترويج المسيحية، حيث ترجم بعض القساوسة الكتب اليونانية والعربية، لكن كان ذلك من أجل نشر المسيحية وحث الناس على الدخول فيها، حتى إن أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية تمت في ذلك الوقت، وكان الغرض منها جمع الأدلة للوقوف في وجه الإسلام والوثنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المجال التعليمي، جمعت العلوم في كتاب شبيه بالموسوعة، ومنعت دراسة الفلسفة، وكان يعتمد بدلاً من ذلك على علم الكلام للحفاظ على العقيدة. أما من ناحية القوانين المدنية، فعلى رغم وجود القانون الرومي، فإن التعاليم الدينية كانت أكثر اتباعاً منه في المجتمع الأوروبي.
لم تكن أوروبا مسيحية بأكملها في بداية القرون الوسطى، لكن دخلت الشعوب الأخرى مثل الفايكنغ والقوط الغربيين في كنف المسيحية بعد ذلك بفضل جهود المبشرين، لتبسط المسيحية سيطرتها ونفوذها على جميع أقطار القارة الأوروبية باستثناء الأندلس، حيث كانت تحت حكم المسلمين.
يتجلى التمسك الديني في القرون الوسطى في بناء الكنائس، وكانت تبنى على الطراز القوطي، وكانت نوافذها وألوانها توضع بشكل يسمح لمرور أشعة الشمس من خلالها بعد أن تخفف من حدتها، وكانت القصص الإنجيلية منحوتة على جدران الكنائس حتى يستفيد منها عامة الناس، وكانت الأمية تنتشر بينهم، أما أطرافها وزواياها فكانت توضع فيها تماثيل للأولياء. كانت الكنيسة بأكملها توفر بيئة تستثير العاطفة الدينية لزوارها وترسخ فيهم محبتهم وتعلقهم بالمسيحية.
الحروب الصليبية وطبقات المجتمع الأوروبي
الحروب الصليبية أيضاً كانت أداة لبسط سيطرة الكنيسة ومد نفوذها. بدأت في القرن الـ11 الميلادي من أجل تحرير بيت المقدس من المسلمين، وانتهت عندما فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس عام 1187م، وأخرج الصليبيين منها. أثارت هذه الحملات العاطفة الدينية في مسيحيي أوروبا، وتشكلت على أثرها تنظيمات مسيحية مسلحة مثل فرسان الهيكل وفرسان الاسبتارية، والتي كانت مهمتها حماية الزوار المسيحيين لبيت المقدس.
أما عن المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى فيمكن تقسيمه إلى ثلاث طبقات. تعد طبقة الفرسان من أهم هذه الطبقات لطبيعة تلك العصور التي كانت تكثر فيها الحروب، وكان ينظر إليها باحترام من قبل العامة، وكانت تضم مقاتلين محترفين. وكان كل فارس يخضع لتنظيمه الخاص ويلتزمون القيم الأخلاقية، وكان شعارهم حماية الضعيف، ومن ثم انعقدت البطولات ليتنافس فيها الفرسان. ووصف الروائي والتر سكوت في روايته الفارس الأسود (إيفانهوي) إحدى تلك البطولات.
الطبقة الثانية كانت طبقة المقاطعين وملاك الأراضي، والتي ظهرت بعد زوال الإمبراطورية الرومانية. كان المقاطعون يعيشون في قلاعهم المشيدة، ولديهم أفكارهم الخاصة، وكان بينهم مزارعون يدينون لملاك الأراضي بالوفاء ويخوضون الحروب نيابة عنهم، ويأخذون مقابل ذلك إقطاعات. أما الطبقة الثالثة فهي طبقة الفلاحين الذين لم يسمح لهم بمغادرة الأرض، حيث كانوا نوعاً من العبيد.
ازدهار الحياة المدنية
لم تكن المدن مأهولة بالسكان في ذلك الوقت، لكن نظراً إلى أهمية التجارة أعطى الحكام الأوروبيون مواثيق للتجار لاستيطان المدن، ومن ثم فرضوا الضرائب لإدارة المدينة والحفاظ على نظافتها. ونما عدد السكان في المدن تدريجاً مع مرور الوقت، مما أدى إلى ظهور طبقة الحرفيين، وأنشئت مبانٍ جديدة تواكب تطور المدن، وازدهر الفن والأدب أيضاً مع ازدهار الحياة المدنية ليعطي هذا النشاط المدني حضارة جديدة للعصور الوسطى.
يذكر أنه كانت هناك معارضة لتسمية القرون الوسطى بالعصور المظلمة. هذه المعارضة كانت من قبل علماء الكنيسة المناهضين لعلماء عصر النهضة الذين وصفوا تلك الفترة بـ"عصر التدين" الذي منح الناس الرضا والطمأنينة الروحانية. يقول علماء الكنيسة إن العصر الذي ابتعد فيه الناس عن الملذات وعاشوا حياة بسيطة وآمنة لا يمكن تسميته بعصر الظلام.