من أين تُستمد القوة؟

منذ 1 يوم 19

ينتاب البعض ضيق ما إن يرحل عن مكتبه باستقالة أو إقالة أو تقاعد. ذلك الارتباط يخالجه شيء من فقدان «وهج السلطة» أو «حلاوة المنصب» وقوته. فالمرء يستمد القوة والسلطة والنفوذ من مصادر عدّة، ليست كلها مرتبطة بمنصبه بالضرورة!

فكم من شخص ترك منصبه إلا أن الناس ما زالوا يعودون إليه بوصفه ضليعاً في مجال ما. وفي المقابل، تجد فئة من الناس ما إن تستقيل حتى ينفضّ الناس من حولها.

في دراسة كلاسيكية شهيرة، كشف لنا الباحثان فرنش ورافن، عام 1968، منابع السلطة الفردية أو القوة (النفوذ) Individual Power. هذه المنابع الراسخة هي: السلطة الرسمية، وسلطتا الثواب والعقاب، وهي سلطات ثلاث يستمدها المرء من وظيفته. بمعنى آخر، إذا أزيح هذا المسؤول من ذلك المنصب، تقلصت معه سلطاته التي يستقي منها قوته. ولذلك نجد أن القيادي ما إن يفقد منصبه حتى يجد نفسه غير قادر على مكافأة أحد أو معاقبته، لأنه جُرِّدَ من تلك العناصر المهمة للتأثير في مَن حوله.

ولذا كان من صور معاقبة الإدارة العليا لمسؤول ما، تجميدها صلاحياته، لتوقف ذلك النفوذ الذي قد يستخدمه في أي لحظة. ومنها مثلاً أن تزيل اسمه من قائمة المخولين بالتوقيع عند المصارف، حتى لا يتمكن من توقيع أو اعتماد أي شيء.

هناك سلطات «مستدامة» تنبع من الفرد ذاته، مثل سلطة «التخصص» و«المرجعية»، التي تمنحه تأثيراً قوياً بغضّ النظر عن منصبه. ولذا لا يحتاج الفرد إلى منصب ليتحلى بسلطة الخبير الذي يرجع إليه الناس وقت الاختلاف على مسألة شائكة. وهذا ما يمهد له الطريق نحو مراتب عليا من التقدير حتى وإن لم يشغل منصباً وظيفياً. ولذلك يقال إن المعرفة قوة... والخبراء مراتب. وعليه، من الحكمة الاستثمار في التخصص لزيادة نطاق التأثير والعمق. أما «المرجعية» فهي مرحلة متقدمة جداً أقرب إلى «العلامة» أو «الأستاذية» أو «القامة العلمية».

كثيرون أهدروا زهرة شبابهم في التقاعس، فما إن تولّوا منصباً حتى اكتشفوا ضحالة مهاراتهم ومعلوماتهم في المهمة الجديدة. وكما قيل: يمكن أن تخدع الناس بعض الوقت لكنك لا تستطيع خداعهم كل الوقت. ولهذا يكابد المخضرمون عناء تطوير ذواتهم، حتى صاروا عملة نادرة ولا يختلف على قوتهم منصفان.

الوظيفة التي كانت «تلتهم نصف يوم» الأديب نجيب محفوظ -حسب تعبيره- لم تمنعه من نيل نوبل للآداب بصفته أول عربي. كان الناس يوقفونه في الطرقات لنيل شرف مصافحته والتصوير معه، لأن قوته لم تكن مرتبطة بوظيفته بل بأدبه وجَلَدِه وإصراره.