يبدأ كل عام بأكبر حشد للاقتصاديين على مستوى العالم، بمؤتمر ائتلاف جمعيات العلوم الاجتماعية الذي تنتظم في إطاره 66 جمعية من الجمعيات المتخصصة، وتنظم أعماله الجمعية الاقتصادية الأميركية. وعُقد مؤتمر هذا العام في مدينة سان فرنسيسكو التي طالما تغنى فنانون بجمال طبيعتها وبهاء مبانيها، بما يجعلك تتعجب مما آل إليه حالها اليوم، بما تراه في المناطق المحيطة بفنادق المؤتمر من شيوع لمظاهر الفقر المدقع، وانتشار متعاطي المخدرات فرادى وجماعات، والمتشردين في الطرقات.
وقد شهدت هذه المدينة الشديدة الثراء متكاثرة الفقراء، تطورات عنيفة في أوضاعها الاقتصادية بدأت قبل الجائحة، واستفحلت بعدها، جعلتها طاردة للمشروعات التي هربت منها بالآلاف، تاركة المباني الشاهقة والمحال الفخمة المظهر خاوية على عروشها المتقادمة. في مقال لسوبيك شاكرابارتي، المحرر في صحيفة «التايمز» الهندية، بعنوان «وداعاً إلدورادو: الخوف والفقر في سان فرنسيسكو»، بدأه كاتبه باقتباس من منصة «إكس» نشر في عام 2023، وكتبه إيلون ماسك الملياردير الأميركي الأشهر ودينامو الحملة الدعائية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، ونصه: «متاجر كثيرة غلَّقت أبوابها... تشعر وكأن المكان حلت به كارثة... يمكنك تصوير فيلم (الموتى السائرين في وسط المدينة) من دون أي تعديل للمخرج». واليوم بعد سنتين من النشر، لا يبدو أن الأوضاع تغيرت إلا سوءاً.
كعادتي، حاولت تجاذب أطراف الحديث مع سائقي سيارات الأجرة، وخدمة «الأوبر» بأسئلة عامة عن أوضاع المدينة التي كانت الزيارة الأخيرة لي فيها قبل جائحة «كورونا» في 2020، فجاءت كلماتهم متحسرة على زمن مزدهر ولى، وأمل في استعادته تبدد، وتطلعهم إلى ترك المدينة عالية التكلفة إلى سواها؛ إذ يصنف فيها من يحصل على أقل من 105 آلاف دولار سنوياً من منخفضي الدخل.
ذكر لي السائق الأول الذي تخطى الستين بسنوات، أنه أمضى من عمره أكثر من منتصفه في هذه المدينة، وقد ضاق به الحال فيها، وليس له سبيل لترك المدينة، فلم يدخر ما يكفيه للرحيل. وقال الشاب ذو الأصول اللاتينية، قائد سيارة «الأوبر»، إنه قرر الهجرة إلى الفلبين؛ حيث وُفق في الحصول على عمل في أحد القطاعات العالية النمو. وأشار مسنٌّ من مصر يقود سيارة كهربائية إلى أن سان فرنسيسكو لم تعد صالحة له ولأسرته؛ بعد أن قضى فيها 14 عاماً قادماً من تكساس؛ حيث أتم دراسته، وها هو إلى تكساس سيعود قبل منتصف العام، بعد أن خفضت ضرائبها جاذبة شركات في مجال عمله التقني. وبين العبارات تأتي إشارات من المتحدثين إلى مظاهر فوضى المتسكعين والهائمين على وجوههم، بأجساد أقرب إلى جثث متحركة، أنهكها الإدمان والاستلقاء على الأرصفة، بجوار مبانٍ تسلحت مداخلها ونوافذها القريبة بأستار حديدية لردع الطامعين فيها.
وتعاني نسبة لا تقل عن 10 في المائة من السكان رسمياً من الفقر، وتزيد نسب الفقراء بين الأكبر سناً والسود والأفارقة الأميركيين، والنساء من هذه الشرائح. ولأسباب تنوعت بين: زيادة تكلفة المعيشة، وغياب نظم الضمان الاجتماعي، وتباين جودة التعليم، والتفاوت في توزيع الدخول، وزيادة البطالة، وانخفاض الأجور، ساءت أوضاع سكان سان فرنسيسكو. وفي ظل غياب السياسات المتكاملة لدفع الكفاءة والإنتاجية وفرص الترقي والمهارات لعموم الناس، وزيادة القدرة على تمتين المجتمع والاقتصاد المحلي من الصدمات، تتهاوى الفرص في التعامل مع الصدمات والمربكات.
وقد كان لسان فرنسيسكو نصيب وافر من هذه المربكات وتراكماتها؛ يرجعها البعض لانفجار فقاعة التكنولوجيا في بداية القرن، المشهورة بمصطلح «دوت كوم»، ثم الأزمة المالية العالمية في 2008، ثم الجائحة وتوابعها التي اجتثت ثروات ومدخرات، وقوضت فرص الصمود لمن بلا ثروة أو ادخار، وبلا سبل للضمان الاجتماعي.
وقد أحسن كاتب مقال «التايمز» الهندية، بأن رد على اقتباسه من إيلون ماسك، عما أصفه بمظاهر التدهور الراهن، باقتباس من الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي، عن جذور هذا التدهور بمقولته الشهيرة: «إذا لم يستطع المجتمع الحر مساعدة الكثرة من الفقراء، فإنه لن يستطيع حماية القلة من الأثرياء».
وعودة إلى مؤتمر الاقتصاديين الذي ضمته فنادق عدة في سان فرنسيسكو؛ فرغم تنوع المواضيع التي تناولتها الأوراق العلمية وجلساته، فإن ما هيمن على مواضيعه يكاد ينحصر في أمرين: الأول توجهات الاقتصاد الأميركي مع الولاية الثانية لترمب التي ستبدأ في العشرين من الشهر الحالي، والموضوع الثاني هو الذكاء الاصطناعي وآثاره الاقتصادية؛ خصوصاً فيما يتعلق بالتنافسية ورفع إنتاجية عوامل الإنتاج، وتداعياته الاجتماعية من خلال تأثيره على سوق العمل والأجور وتوزيع الدخل.
عندما تصاب الاقتصادات بتراجع في مؤشراتها الحيوية لتراجع تنافسيتها، يلجأ المسؤولون عنها ذوو التوجهات الشعبوية إلى استهداف أحد أمرين أو كليهما: التجارة والعمالة المهاجرة. فهم لا يستطيعون استهداف تراجعهم في التنافسية بإجراءات سريعة يتجاوب معها أنصارهم. فما أسهل فرض الإجراءات الحمائية بزيادة الرسوم والتعريفة الجمركية، وما أيسر تقييد حركة العمالة الوافدة بقوانين وقرارات، وإخلاء البلاد من مهاجرين غير نظاميين أو ناقصي وثائق وأوراق. ولكن استعادة الريادة في التنافسية لدفع الاستثمار والنمو تستلزم زمناً طويلاً وجهداً مضنياً للارتقاء بنوعية التعليم والمهارات والبحث والتطوير، وزيادة جودة البنية الأساسية التكنولوجية. وفي مقال قادم سأناقش الإجراءات الاقتصادية المزمعة في عالم ترمب، وآثارها على العوالم الأخرى؛ ليس فقط تلك العوالم الخارجة عن حدود الولايات الأميركية؛ بل تلك العوالم القابعة داخلها، كسان فرنسيسكو وأخواتها.