ماذا تقول أوراق البردي عن المدن المصرية؟

منذ 1 سنة 117

ارتبطت البرديات دائماً في أذهان الناس بالمصريين القدماء وبأنها كانت واحدة من الوسائل التي أمكن عن طريقها فك شيفرات تلك الحضارة العظيمة، إلا أن هناك فصولاً أخرى من التاريخ المصري كتبت على هذه البرديات، وأصبحت مع الزمن واحدة من المصادر التي يستند إليها عند الرغبة في التعرف إلى معالم هذه الفترة وكيف كان شكل الحياة وقتها باعتبار أن زراعة نبات البردي وصناعة الورق منه ظلت مستمرة على مدى عصور طويلة.

من بين الفترات المهمة التي وثقت أحداثها على البرديات المرحلة التالية لدخول العرب إلى مصر، حيث استخدموا البرديات في المعاملات المختلفة باعتبارها كانت سائدة في البلاد على رغم اعتياد العرب على الكتابة على الرق المستخلص من جلود الحيوانات، فلم يعرفوا هذا النوع من الأوراق من قبل ولم يعتادوا عليه.

من خلال هذه البرديات أمكن التعرف إلى كثير من المدن والقرى المصرية خلال هذه الفترة وأهم أحوالها وما كان يميزها باعتبار أن هذه الأوراق كانت تسجل عليها أنواع المعاملات كافة، فهي تضم رسائل وأوراقاً رسمية وأموراً تجارية وعقود بيع وشراء، وحتى عقوداً للزواج.

البرديات التي تعود للعصر الإسلامي أثارت اهتمام أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية وعميد كلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة محمد عبداللطيف ليقوم بدراسة معمقة في هذا الشأن، فدرس 407 برديات تعود للعصر الإسلامي، بعضها محفوظ في دار الكتب والوثائق المصرية ومعهد البرديات في جامعة هايدلبرغ بألمانيا والمجموعة المحفوظة في مكتبة جون رايدلندز بمانشتر بإنجلترا ومجموعة الأرشيدوق راينر في فيينا بالنمسا ومجموعة متحف الدولة في برلين ومجموعة المتحف البريطاني بلندن.

الدراسة السابقة نتج منها كتاب "المدن والقرى المصرية في البرديات العربية" الصادر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة وهو من ضمن مقتنيات مكتبة متحف "اللوفر" في باريس والمكتبة الوطنية في فيينا ويعد دراسة أثرية وحضارية مع معلومات وثائقية عن بعض المدن والقرى المصرية كما سجلتها البرديات العربية الخاصة بالعصور الأولى لوجود المسلمين في مصر، ويعتبر إضافة للمكتبة العربية في هذا الشأن باعتبار أن هذه البرديات التي تعود للعصر الإسلامي لم تحظَ بالدراسة والاهتمام الكافي مثل تلك التي تعود لعصر مصر القديمة.

أهمية ورق البردي

يرتبط الحديث عن البرديات التي تعود لمختلف العصور بالحديث عن قيمة ورق البردي وأهميته في مصر ومدى الاهتمام بزراعته على مدى تاريخ طويل، فيقول محمد عبداللطيف لـ"اندبندنت عربية"، كان نبات البردي شائعاً في مصر منذ أقدم العصور ومع مجيء العرب إلى بلادنا أدركوا أهميته وقاموا برعاية زراعته وصناعة الورق منه واستمرت مصانع البردي في مصر طوال عهد الخلفاء الراشدين وخلال العصر الأموي والعباسي، مما نتج منه وجود برديات عدة عليها كتابات باللغة العربية.

IMG_20230428_224731.jpg

 أمكن عن طريق البرديات العربية التعرف إلى كثير من تفاصيل المدن والقرى المصرية  (كتاب المدن والقرى المصرية في البرديات العربية)

ويضيف "كان البردي يزرع في جميع أنحاء مصر، لكن كان هناك تفوق واضح لمحافظات الوجه القبلي في زراعته، وكان يستخدم ويصدر إلى الخارج أيضاً، ولذلك توجد برديات عليها كتابات بلغات أخرى غير المصرية القديمة والعربية".

ويشير إلى أن "هناك عدداً من البرديات التي تعود للعصر الإسلامي في مجموعات ضخمة داخل مصر وخارجها، لكنها لم تحظَ بالاهتمام الكافي والدراسة على رغم أنها تعكس كثيراً من نواحي الحياة خلال هذه الحقبة بسبب استخدامها في معاملات متعددة خاصة بجميع نواحي الحياة مثل التجارة والأمور الرسمية وعقود الزواج وغيرها التي يمكن الاستناد إليها في التعرف إلى كثير من تفاصيل الحياة".

المدن المصرية

ظهرت في البرديات أسماء 145 بلدة منها 32 مدينة و113 قرية توزعت ما بين الوجه البحري والقبلي، وجدت منها ست مدن لا تزال باقية على حالها من بينها الإسكندرية وأسوان وأخميم، وبعض المدن اندثرت ولم يعد لها وجود مثل تنيس والفرما والفسطاط وتحولت مدن إلى قرى مثل طحا بالقليوبية، وكذلك الحال بالنسبة إلى القرى فبعضها قائم وبعضها اختفى وآخر تحول إلى مدن كبيرة مثلاً تلا في محافظة المنوفية.

ومن خلال هذه البرديات أمكن التعرف إلى كثير من معالم هذه المدن والقرى وأسماء الشوارع والحارات وقيمة الضرائب التي تفرض على الناس وكيف يتم تقديرها، إضافة إلى معرفة كثير عن المهن والوظائف التي كانت سائدة خلال هذه الفترة مثل معاملات بين مسلمين وغير مسلمين وأسماء المحاصيل التي تتم زراعتها والتي تمنع زراعتها مثل الأفيون، وعقود البيع التي كانت تتضمن توثيقاً دقيقاً للمكان وموقعه وأهم العلامات القريبة منه مثل مسجد أو موقع ذي أهمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عن أبرز المدن التي ورد ذكرها في البرديات العربية، يقول عبداللطيف إن "مدينة الفسطاط كانت مركزاً تجارياً وواحدة من المدن الرئيسة في مصر، وكانت لها أربعة أبواب كبرى، وكانت تشتهر بصناعات كثيرة من بينها الفخار والخزف والجلود".

ويضيف أن "القاهرة ذكرت في البرديات باسم الروضة، إذ لم تكن القاهرة في ذلك الزمان تعرف بهذا الاسم، ولا حدودها هي الحدود الحالية، وكانت تمثلها المنطقة المعروفة باسم الجزيرة التي يمثلها الآن جزيرة الروضة بالنيل واشتهرت بصناعة السفن".

ومن المدن المهمة التي ذكرت في البرديات، والحديث لعبداللطيف، "الفرما الواقعة في شمال سيناء وهي اندثرت الآن وبقيت منها منطقة أثرية فقط تعرف بتل الفرما، لكنها كانت مدينة عامرة واستوطنها كثير من العرب، ويقال إنها القرية التي كانت تنحدر منها السيدة هاجر أم إسماعيل ابن النبي إبراهيم عليهما السلام، وورد في مصادر كثيرة من بينها مصادر تعود لعلماء الحملة الفرنسية أنه كان هناك فرع للنيل يمتد إليها، مما يدل على أهميتها الكبيرة في ذلك الوقت".

ويشير إلى أنه "من بين مدن الصعيد التي ورد ذكرها في البرديات مدينة إسنا التي تضم آثاراً تعود لكل العصور، وكانت من أهم مدن الجنوب في العصر الإسلامي، والمنيا التي كانت من أهم المدن الزراعية بفعل خصوبة أرضها واستوطن بها كثير من العرب وتفاعلوا مع المجتمع وعملوا في كثير من الحرف، وأهناسيا التي تنسب إليها أقدم بردية تعود للعصر الإسلامي وهي المعروفة ببردية أهناسيا".

علاقات تجارية وإنسانية

تناولت بعض البرديات كثيراً من المعاملات التجارية بين مدن مصرية وأخرى في الخارج، بحيث وجدت علاقات تتعلق بتصدير منتجات مصرية اشتهرت بها مدن معينة إلى دول أخرى وتم رصد تفاصيل هذه المعاملات مسجلة على البرديات، مما أفاد في التعرف إلى أهم الصناعات التي اشتهرت بها مدن مصرية معينة التي لا يزال بعض منها قائماً حتى يومنا هذا.

ورصدت برديات أخرى معاملات بين الأفراد مثل عقود بيع لعقارات وعقود زواج وغيرها أمكن عن طريقها التعرف إلى كثير من الأمور السائدة وقتها ومن بينها العملات المستخدمة.

IMG_20230428_143632.jpg

تنتشر البرديات العربية في مجموعات بكثير من المتاحف والمراكز البحثية  (كتاب المدن والقرى المصرية في البرديات العربية)

ويلفت عبداللطيف إلى أنه "أمكن عن طريق نصوص البرديات التعرف إلى كثير من المعاملات التي ربطت مدناً مصرية بأخرى خارج البلاد ومن بينها العلاقات التجارية، فوجدت علاقات تجارية في مجال النسيج ما بين مدينة أخميم المصرية التي كانت وما زالت تشتهر بصناعات النسيج ومدن مثل بغداد وطبرستان ونيسابور، كما سجلت علاقات تجارية في مجال صناعة الجلود بين الفسطاط وتنيس وإقليم السند، وفي مجال صناعات العطور وجدت علاقات بين الفيوم ودمياط ومدن مثل نابلس وجور".

ويوضح أنه "من خلال البرديات أمكن أيضاً التعرف إلى بعض العملات المستخدمة، فإحدى البرديات وهي عقد زواج جاء فيه أن الرجل سيدفع للمرأة مهراً قيمته دينار واحد من الدنانير المستنصرية (التي تعود لعهد الخليفة المستنصر بالله) إذ كانت عقود الزواج تكتب على ورق البردي لانتشاره ولما عرف عنه من صعوبة الكشط أو التغيير في المحتوى، ومن أهم هذه البرديات بردية تعود لعام 259 ه.(872 م.) موجودة في دار الكتب المصرية، وهي عقد زواج ذكر فيه اسم الأشخاص ومكان إقامتهم والصداق المتفق عليه، ويلاحظ أنه ذكر بالعقد شرط أن يعامل الرجل زوجته معامله حسنة كما أمر الله ورسوله".

عدالة حكام المسلمين

قصص بعينها تتواتر عن شخصيات تاريخية معينة ومن بينها الحكام بعضها ربما يكون صحيحاً وبعضها خطأ، وكثيراً ما تساعد مثل هذه المخطوطات، بخاصة المرتبطة بالولاة والحكام في استنباط بعض التفاصيل عن شخصية الشخص وتوجهاته ومقارنتها بما يتردد عنه في الثقافة الشعبية أو حتى في مراجع المؤرخين.

ويشير عبداللطيف إلى أن "بعض البرديات دلت على عدالة الحكام المسلمين ومنها رسائل الوالي قرة بن شريك إلى حكام الكور والمدن المصرية التي نفت عنه التهم التي وردت في عدد من كتب المؤرخين وأوضحت عدالته ومراقبته للأسواق ومن أهمها بردية من مجموعة شون راينهارت المحفوظة في معهد البرديات في جامعة هايدلبرغ بألمانيا وهي رسالة من قرة بن شريك إلى حاكم كوم أسقاو وهي بردية ضخمة من 90 سطراً ويطلب فيها جمع الضرائب من الناس باللين وعدم العنف وعقاب من يضبط وهو يغش الناس في الميزان".