في رواية لي صادرة عام 2003، يعبّر شخصٌ عن مخاوفه من مستقبل القرن الحادي والعشرين الذي بدأ، بذكر ما معناه: أكثر ما أخشاه أن يكون صراع الأزمنة المقبلة بين العدد الذي يستحيل ضبطه، والسلاح النووي؛ بين الكمّي البشري من جهة، والنوعي الحربي الأقصى من الجهة الأخرى.
لكن حتى الآن، وعلى الرغم من الحربين الخطيرتين اللتين شهدهما هذا القرن؛ الحرب الأوكرانية وحرب الشرق الأوسط، وما رافقهما من قسوة ومن خسائر بشرية ومادية هائلة، لم يظهر السلاح النووي، وإن لوّح به الروس من بعيد. ما ظهر هو أمرٌ مختلف. فقد حدثت على التوالي حركتان يصعب توقّعهما، برزتا بصورة خاصة في الشرق الأوسط:
الحركة الأولى امتدّت 44 عاماً؛ من الثورة الخمينية إلى عام 2024، ومثّلت في هذه المنطقة ما يمكن وصفه بالتحوّل؛ من العددي الكمّي إلى النوعي الحربي. وانبثاق النوعيّ من التراكم الكميّ حركة معروفة في الفكر الفلسفي، خصوصاً الفكر المادي. فقد وضعت الثورة الإيرانية استراتيجية عسكرية، داخلية وإقليمية، بالغة الطموح، سخّرت لها كل إمكاناتها الاقتصادية والمالية والبشرية والآيديولوجية الدينية والإعلامية. وأكثر فأكثر، مع تطوّر أبحاثها النووية وقدراتها الإلكترونية والصاروخية ومسيّراتها وكثير من قطاعاتها الحربية الأخرى، أنشأت لها في بلدان المنطقة، خصوصاً حيث تتوافر مجتمعات مذهبية منسجمة معها، كيانات عسكرية خارج نطاق الدولة، زوّدتها مختلف أنواع الأسلحة ومختلف أشكال الدعم المادّي والخبرات العلمية والتنظيمية، بحيث أضحت لها «إمبراطورية» ممتدة من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن غزّة، وأصبحت على تماسّ مباشر مع الدولة العبرية، حيث محور دعوتها «الجهادية» لـ«تحرير القدس واستعادة فلسطين». وقد استفادت الثورة الإيرانية، لتعزيز مكاسبها وترسيخ سطوتها، من حروب أميركا في العراق وأفغانستان، ومن غموض السياسات الأوبامية وازدواجياتها، ومن الطموحات الاقتصادية الأوروبية قصيرة المدى، ومن التناقضات داخل البلدان العربية التي امتدّت أذرعها إليها وما أصاب دولها من ضعف وارتباك. هكذا، باتت روسيا تستعين بالمسيّرات الإيرانية في حرب أوكرانيا. وقد وصلت هذه الحركة المتصاعدة إلى ذروتها في عملية «طوفان الأقصى» التي هزّت أركان الدولة الصهيونية، واستدعت حضور أساطيل أميركا والغرب على عجل. وباتت هذه الأساطيل عاجزة عن منع الحوثي من إغلاق منافذ باب المندب والبحر الأحمر في وجه الملاحة العالمية... ما لم يسبق له مثيل. كان شعار المحور الإيراني أن «الكلمة للميدان». ووصلت نشوة الانتصار بغلاة المحور في لبنان إلى تصريح أحد منظّريهم بأن زمن التفوّق التكنولوجي الأميركي والغربي قد ولّى، وبدأ عصر التفوّق الإيراني.
كانت تلك هي الحركة الأولى؛ حركة التحوّل الكبير التي فاجأت المنطقة والعالم. لكن ردّ الغرب عليها كان أبعد ما يكون عن السلاح النووي.
برزت، خصوصاً مع صيف 2024، الحركة المفاجئة الثانية الكبرى، حركة التفوّق النوعي الحاسم الذي يتمتّع به التحالف الإسرائيلي - الأميركي - الأوروبي في مجال الحروب غير النووية، والذي أدّى خلال بضعة أشهر إلى انهيار ما راكمته الثورة الإيرانية، في الداخل والخارج، خلال 44 عاماً. كان لظاهرة الذكاء الاصطناعي دور مهم في ذلك. ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، المنتصر في معركته الأميركية، والناجي من الموت بما يشبه الأعجوبة، ليحاول القضاء على ما تبقى من القوة الإيرانية؛ جهة الأذرع وجهة المركز.
هل زال هاجس الاصطدام الكبير بين الكمّي البشري وما يحمله من تحوّلات ومفاجآت، من جهة، والسلاح النووي، من جهة أخرى؟
يعتقد البعض أن «طوفان الأقصى» حلّ قبل أوانه، وأنه لو طال الزمن أكثر لاستطاع التفوّق الإيراني تحقيق مرامه. لكن هذه النظرة لا تأخذ في الحسبان أن التحوّل النوعي الإيراني كان محصوراً أساساً في قطاعات عسكرية محدّدة لا يتخطاها، وإن شمل أبحاثاً نووية متقدّمة.
أمّا التحوّل الهائل والشامل من الكمّي البشري إلى النوعي، الذي يطول جميع مجالات العلم والتكنولوجيا والمعرفة وأسرارها وتطبيقاتها التي لا تحصى، فمكانه الصين؛ بلاد المليار ونصف المليار نسمة. هناك، وليس في الشرق الأوسط، ينتصب خصم الغرب الحقيقي. وقد خشي بونابرت، قبل ترمب بأكثر من قرنين، حدوث ذلك. وها هو قد حدث. أنه لَسرّ من أعمق أسرار الأزمنة المعاصرة أن تستطيع الصين، التي كانت قبل حين بلد المجاعات الكبرى، سبر أغوار الحضارة الصناعية الأوروبية برمّتها. إلى أين العلاقة بين الغرب المنفتح و«إمبراطورية الوسط» المسوّرة؟ تلك هي المسألة.