التصدعات التي تعاني منها دول العالم الثالث ناتجة في الغالب إما من تأثير بقايا استعمار قديم ترك ندوباً في وجه الدولة الوطنية الناشئة، أو فشل إداري وسياسي في الدولة الوطنية ملوث بالفساد، وقمع، واقتصاد مثقل بأرباح ديون للبنوك الغربية... مجموع تلك العوامل يجعل من جماعات بشرية تحمل المشاق ومواجهة الموت للهجرة إلى أماكن أخرى كلاجئين أو مهاجرين يعتقدون أنهم سيكونون في حال أفضل.
والمثال مواطنو عدد كبير من دول أميركا اللاتينية التي يضربها الفقر والفاقة والاضطهاد، فيضطر سكانها، رجالاً ونساء وأطفالاً، إلى السير مسافات طويلة في طرق تحيطها المخاطر للوصول إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة طمعاً في العبور إليها، أو تلك الجماعات التي تركب مراكب صغيرة غير قابلة للإبحار من شمال أفريقيا أو شرق المتوسط متوجهة إلى أقرب نقطة في أوروبا، بعضها يصل منهكاً، ثم يعاد في الغالب إلى مكان هجرته، وآخرون يختفون تحت مياه البحر موتى غرقاً، ويمتلئ بحر المانش الفاصل بين الجزر البريطانية وفرنسا بتلك القوارب الصغيرة الحاملة لمهاجرين، بعضها من جديد تبتلعه مياه البحر، والبعض الآخر ينتهي في شبه «معسكرات اعتقال». وأصبحت تلك الهجرة غير الشرعية الشغل الشاغل للسياسيين والإعلام في بريطانيا، رغم كل ما تعانيه البلاد من وضع اقتصادي متدهور، ويبقى بشر آخرون على سفن الشحن والنقل متنقلين بين الموانئ لسنوات من دون أن تحط أرجلهم على اليابسة. على الرغم من صدور عدد من القوانين الدولية التي تنظم الهجرة واللجوء، فإن معظمها يبقى حبراً على ورق لا تهتم به السلطات، بل أصبح التوجه العلني في «منفستو» الكثير من الأحزاب الأوروبية رفض ومحاربة الهجرة، وعلى أساسه تصل إلى السلطة كما حدث في إيطاليا أخيراً.
يهاجر البشر نتيجة ظروف قاسية اقتصادية وسياسية بالغة القسوة والخطورة، وتقدر الإحصاءات المنشورة أن هناك ما يقارب سبعين مليون إنسان يهاجرون اليوم قسراً منتشرين حول العالم في مخيمات تفتقد الحد الأدنى من مقومات الحياة، أو على حدود الدول، كمجموعات متنقلة بين الحدود.
اتفاقية عام 1951 الدولية تحدد تعريف اللاجئ بأنه الشخص الذي يخشى على حياته أو حريته من العودة إلى وطنه لأسباب تتعلق بالعِرق أو الدين أو انتمائه لمجموعة اجتماعية أو رأي سياسي، وأضيف إلى مصطلح اللجوء مصطلحات أخرى، هي الفقر الطارد للبشر و«عديم الجنسية»، والأخير أصبح مشكلة اجتماعية وسياسية في الكثير من الدول، سواء كانت من الدول النامية أو المتقدمة، وهذا المصطلح للمفارقة ظهر أول ما ظهر في أوروبا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ إذ أصبح كل مواطن لدولة معادية ولا يرغب في العودة إلى بلده هو «عديم الجنسية»!
ما تقدم هو توصيف للظاهرة، ومع انشغال العالم بقضية المناخ التي ينظم لها المؤتمرات، ويجتمع لها رؤساء الدول، وتُرصد لها الميزانيات؛ يبقى ملف «اللجوء وعديمي الجنسية» في الخلفية التي لا تناقش.
من أسباب ظاهرة اللجوء، الحروب البينية في العديد من الدول، وهي حروب إما المجتمع الدولي ساكت عنها ومنصرف لغيرها، أو أن بعض الدول الكبيرة لها مصالح في استمرارها. المثال بين أيدينا هو سوريا وليبيا واليمن، من بين دول أخرى كثيرة، فهذه البلاد كما نشاهد تبتعد عن «بؤرة» الاهتمام الدولي، بل يجري الصراع على أرضها بصرف النظر عن آلام المواطنين العزّل الذين لا حول لهم يُهجّرون من مدنهم وقراهم إلى المجهول. ولم تلتفت الدول في كل مؤتمراتها إلى تلك القضية الإنسانية.
بعض الهجرات، كما في أفريقيا، تتم لأسباب التصحر الذي ساهم في الجزء الأكبر منه الدول الصناعية، وخاصة الغربية، فقد أصبح من المعروف أن الدول النامية تساهم بنسبة قليلة فيما عُرف بالانبعاث الكربوني، وهو السبب في التغيرات الكبرى في المناخ العالمي، ولما تدفق اللاجئون الأفارقة وغيرهم على أوروبا وضع اللوم عليهم، من دون إشارة إلى لوم الغرب الصناعي ومساهمته في حرمانهم من مصدر معيشتهم التقليدي الذي سببه الرئيسي تلك الانبعاثات التي مصدرها أساساً الغرب الصناعي.
يتحمل الغرب أيضاً ذنب الهجرة من الدول القمعية إلى خارجها، بل إن تلك الدول الشمولية التي تضطهد مواطنيها وتدفعهم إلى الهجرة وركوب البحر بمغامرة غير محسوبة النتائج؛ ذلك لصرف نظر الغرب أو حتى تهاونه عن السوءات التي ترتكبها تلك الأنظمة في حق مواطنيها. أيضاً تساعد بعض الدول الكبرى تلك الأنظمة الشمولية في البقاء في الحكم والتحكم في مصير ملايين البشر.
عندما تصل جماعة من البشر إلى قناعة «لا خلاص إلا بالموت» غرقاً و/ أو جوعاً والبقاء في المخيمات، فلا عجب إذاً أن ينتشر الإرهاب وتندلع الصراعات وتفشل الدول.
صحيح أن معركة المناخ التي يتنادى لها العالم اليوم هي من أهم القضايا العالمية، ولكن الصحيح أيضاً هو حصار الصراعات في الدول، والإشارة إلى مسببيها، سواء كانوا دولاً و/ أو أنظمة.
فلا مناص من الاعتراف أن الصراع في اليمن هو نتيجة التدخل العسكري والمالي واللوجيستي الإيراني الذي يسبب الفاقة والفقر والهجرة في اليمن، كما نفس التدخل في لبنان الذي يعطل الدولة ويقعدها عن أقل أدوارها المطلوبة برعاية أبنائها، وبالتالي التحكم في هجرة القوارب إلى الموت، كما يرى العالم أمامه. التدخل في ليبيا من دول بعيدة يجعل الدولة الليبية هشة ومسرحاً للهجرات من الجنوب ومكاناً للصراع، بل هجرة أبنائها، وكذلك الحال في سوريا التي أصبح لها اليوم أكثر من عقد من السنين وهي مقسمة وفاقدة حتى لقدرة الدولة على بسط قوانينها؛ لأن البعض من القابضين على السلطة يرى أن سوريا المفيدة هي المحيطة به لا غير، ولا بأس من استدعاء «الشيطان» للمساعدة في تثبيت الشمولية.
إذاً، المجتمع الدولي مع الجلبة الكبرى في «قضية المناخ»، وفي الوقت نفسه يتجاوز قضية البشر الذين يعانون؛ من شعوب دول أميركا الإثنية، إلى شعوب الشرق الأوسط، ويلتفت إلى الصراع بين الصين والولايات المتحدة، بل يستهلك الموارد والطاقات للحفاظ على المكانة الرمزية له في العالم، في الوقت الذي يحدث فيه ازدراء للبشر غير مسبوق.
آخر الكلام:
العواصم الغربية تقيم الدنيا ولا تقعدها على حقوق أفراد في دول مستقرة، وتصرف النظر عن ملايين من المهجّرين، بل تعلي الأسوار أمامهم!