كيف يمكن لثقافة المراقبة في العمل أن تقلل من إنتاجية الموظفين؟

منذ 9 أشهر 97

يبدو الأمر وكأنه مشهد من روايةٍ بائسة، حيث تقوم أجهزة استشعار بتتبع نشاط العاملين والوقت الذي يكونون فيه خلف مكاتبهم بدقةٍ متناهية. لكن ذلك حدث بالفعل في إحدى الصحف التي كان يعمل فيها زميلٌ لي في وقتٍ سابق. فهل حصل وأن أخذك الحديث مع شخص ما أثناء ذهابك لإحضار القهوة في غرفة الاستراحة، وانتهى بك الأمر بأن مكتبك - وبالتالي رئيسك في العمل - أصبحا على علم بغيابك خلال تلك الفترة؟

هذا النظام لم يدم طويلاً، فعلى ما يبدو أنه كان من الصعب الإبقاء عليه، عندما ثارت غرفة الأخبار بأكملها ضده. ومع ذلك، فقد اعتمدت أماكن عملٍ أخرى كثيرة تدابير مماثلة. وفي الأسبوع الماضي فقط، جذبت شركة المحاسبة "إيرنست أند يونغ" Ernst & Young (EY) انتباه وسائل الإعلام، عندما تم الكشف عن أن البيانات الواردة من أنظمة مراقبة بواباتها الدوارة، تخضع للتدقيق من جانب كبار الشركاء، لتقييم حضور العاملين إلى مكاتبهم.

وينطوي نظام المراقبة على مجموعةٍ من الأدوات، بدءاً من مراقبة رسائل البريد الإلكتروني، مروراً بتسجيل كل ضغطة على لوحة المفاتيح، وصولاً إلى نشر كاميرات المراقبة وأجهزة التتبع، بهدف إجراء مراقبة مستمرة للأنشطة اليومية. وتستخدم هذه العملية ميزاتٍ مثل كاميرات الويب الموجودة على أجهزة كومبيوتر العمل، والماسحات الضوئية المحمولة لموظفي المستودعات، وبرامج "الذكاء الاصطناعي" AI، التي تقّيم مدى التزام موظفي مركز الاتصال "بالشكل الصحيح" بالاستجابات للعملاء وفق النصوص المعدة لهم سلفاً. وفي الخلاصة: لقد دُمجت جميع تلك الوسائل بشكلٍ خبيث داخل أنظمة شتى القطاعات والصناعات على اختلافها، إلى حد أن التكنولوجيا أصبحت في بعض الحالات، قادرةً على التقاط تعابير الوجه ونبرة الصوت، وتقوم بإجراء "تحليلٍ للحالة المزاجية والمشاعر". إنه عالمٌ تقشعر له الأبدان ويذكرنا بحلقات المسلسل البريطاني "المرآة السوداء" Black Mirror (المؤلف من حلقات مستقلة تستكشف الجوانب المظلمة للمجتمع الحديث والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والمراقبة و"الذكاء الاصطناعي").

استناداً إلى دراسة أجراها موقع "توب تين في بي أن" Top10VPN (الذي يقوم بمراجعة "الشبكات الخاصة الافتراضية" Virtual Private Network التي تساعد في حماية خصوصية الأفراد وسلامة تصفحهم على الإنترنت)، فقد ارتفع الطلب على برامج مراقبة الموظفين بنسبة 78 في المئة في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2022، وهو ما يمثل أكبر زيادةٍ منذ نحو أعوام. وفي الوقت نفسه، تشير مؤسسة "غارتنر" Gartner (التي تجري أبحاثاً واستشاراتٍ في مجال التكنولوجيا)، إلى أنه من المتوقع أن تتبنى نحو 70 في المئة من الشركات الكبيرة برامج تتبع الموظفين بحلول عام 2025. وتوضح الدكتورة وعالمة الاجتماع تريسي بروير، مؤلفة كتاب "أسرار السعادة في العمل" The Secrets to Happiness at Work - أنه "مع تزايد نسبة العمل من بُعد، بدأت المؤسسات تختبر تجربة استخدام التقنيات والأنظمة المتاحة لمراقبة موظفيها وقياس مدى الحضور والانتباه والإنتاجية لديهم".

22.jpg

في أعقاب جائحة كورونا والتحول نحو نمط العمل المختلط (من المنزل وفي المكاتب)، تزايدت المخاوف في شأن الاستخدام المتنامي للتكنولوجيا لمراقبة الإنتاجية. وفي حالاتٍ مثل شركة "إيرنست أند يونغ"، يبدو أن التكنولوجيا يتم استخدامها كوسيلة ضغط مجازية، لدفع الموظفين إلى العودة إلى المكاتب. وبالنسبة إلى أفراد مثلي، الذين يتضمن عملهم مهام مثل البحث، أو تصفح وسائل الإعلام الاجتماعية للاستلهام أو ببساطة ابتكار بعض الأفكار ـ وهي مهام أساسية ضمن إطار عملي، لكن من دون "نتائج" محددة قابلة للقياس ـ فإن فكرة المراقبة المستمرة تصبح أمراً مربكاً ومزعجاً للغاية.

"مؤتمر نقابات العمال" في المملكة المتحدة Trades Union Congress (TUC) ، نبه في عام 2022، إلى أن تكنولوجيا مراقبة الموظفين "التدخلية"، معرضة لخطر أن تصبح "خارج نطاق السيطرة"، في ظل غياب قوانين قوية لحماية العاملين. وإذا ما تُركت هذه التقنيات من دون آلية تنظيمية رادعة، فمن الممكن أن "تؤدي إلى حدوث حالاتٍ مثل التمييز على نطاق واسع، وزيادة متطلبات العمل، والمعاملة غير العادلة للموظفين".

واستند "مؤتمر نقابات العمال" على خلاصات دراسةٍ استقصائية أجراها معهد الأبحاث "ثينكس إنسايت أند ستراتيجي" Thinks Insight & Strategy، ليلفت إلى أن "نحو 60 في المئة من العاملين يعتقدون أنهم تعرضوا لشكلٍ من أشكال المراقبة والتتبع في وظائفهم الراهنة أو الأخيرة. وفي المقابل، أقر نحو 28 في المئة بزيادةٍ في المراقبة والتتبع في العمل منذ تفشي فيروس كورونا، مع زيادةٍ ملحوظة في مراقبة أجهزة الموظفين ومكالماتهم الهاتفية، مقارنةً بعام 2020.

فرانسيس أوغرايدي، الأمينة العامة لـ "مؤتمر نقابات العمال" في ذلك الوقت، قالت إن "أرباب العمل يقومون بتفويض القرارات المهمة إلى الخوارزميات - كالتوظيف والترقيات، وحتى في بعض الأحيان عمليات الفصل من العمل". واعتبرت أن فضيحة "مكتب البريد" (تسبب من خلالها برنامج محاسبة معيب يُسمى "هورايزون" بإحداث نقص غير صحيح في حسابات آلاف الموظفين وأدى إلى محاكمتهم) يجب أن تكون نقطة تحول، وينبغي ألا يفقد أحدٌ مصدر رزقه بسبب التكنولوجيا".

فيما يريد الأفراد الاستقلالية والاختيار والتحكم بأمورهم والثقة والاحترام، تبعث تكنولوجيا المراقبة برسالة مفادها أن الشركة تستجوب الموظف أو تتحقق من عمله

الدكتورة تريسي بروير

وقد عادت فضيحة "مكتب البريد" لتطفو على سطح الأحداث أخيراً من خلال بث دراما على قناة "آي تي في" ITV البريطانية، والتي بنيت على القضية التي شهدت محاكمة مئاتٍ من الأفراد عن طريق الخطأ، بتهمة السرقة والتلاعب بالسجلات المالية، نتيجة خطأ برمجي.

في المقابل، كشف تقرير صادر عن مؤسسة "داتا أند سوسايتي"  Data & Society - وهي منظمة بحثية مستقلة غير ربحية، تركز على الآثار الاجتماعية للبيانات والأتمتة و"الذكاء الاصطناعي" - عن تتبع واسع النطاق لبيانات العاملين عبر مختلف القطاعات. وأظهر التقرير عن جمع لمعلوماتٍ عن كل جانبٍ من جوانب وظائف العاملين تقريباً، وفي بعض الأحيان، عن حياتهم الشخصية، وغالباً من دون موافقتهم الكاملة أو الحرة. وتبين أن عدداً كبيراً من الموظفين، لم يكونوا على علم بمدى نطاق المراقبة أو طريقة استخدام بياناتهم الخاصة. وأعطى تقرير بعنوان "كونستانت بوس"  Constant Boss مثالاً عن موظفي مؤسسة "وولمارت" Walmart الذين طُلب منهم تثبيت تطبيق على هواتفهم الشخصية بهدف مراقبة مستويات المخزون في مستودعاتهم. ومع ذلك، يطالب هذا التطبيق بالوصول المستمر إلى كاميرا هاتف المستخدم وخدمات الموقع، ومشاركة هذه البيانات مع رب العمل، ما لم يقم الموظف بإيقاف تشغيله يدوياً لدى انتهائه من نوبة العمل.

وتقول سيلكي كارلو مديرة "بيغ براذر ووتش" Big Brother Watch، وهي منظمة حملاتٍ بريطانية تُعنى بالدفاع عن الحريات المدنية وعن الخصوصية الفردية: "لقد أعربنا عن موقفنا المندد بالإقبال المتزايد من جانب الشركات على مراقبة أماكن العمل في الأعوام الأخيرة. وحتى مع اعتماد الملايين من الأشخاص لأنماط العمل من بُعد، أو المختلط، فمن الأهمية بمكان أن ندرك أن المنزل هو مساحةٌ خاصة، وأن لكل فردٍ الحق في أن يحظى بمستوى عالٍ من الخصوصية داخله".

33.jpg

ونبهت إلى أن "المراقبة التدخلية تحرم الموظفين من الخصوصية والاحترام والكرامة التي يستحقونها في مجال العمل. وينبغي أن يكون المدراء الأكفاء قادرين على قياس أداء زملائهم، من دون الاعتماد على تقنيات المراقبة الآلية، التي غالباً ما تعتمد على فرضياتٍ زائفة، تقوم على مبدأ اعتماد نهج موحد ومقياسٍ واحد يُطبق على الجميع لتحقيق الإنتاجية المثلى".

قد لا يكون مستغرباً أننا في غالبيتنا العظمى غير مطمئنين لفكرة الخضوع للمراقبة والتقييم المستمر طوال يوم العمل. وقد كشف استطلاع أجرته نقابة "بروسبكت" Prospect (التي تمثل المهندسين والمدراء والعلماء وغيرهم من المتخصصين في القطاعين العام والخاص في بريطانيا) في عام 2023، أن العاملين في المملكة المتحدة يظهرون انزعاجاً شديداً من المراقبة الرقمية، واتخاذ القرارات المؤتمتة في مكان العمل. وكشف الاستطلاع الذي أجرته نقابة التكنولوجيا وشمل أكثر من 1100 عامل في مجال التكنولوجيا في المملكة المتحدة، عن وجود معارضةٍ كبيرة لأشكال مختلفة من المراقبة الرقمية في العمل، إضافةً إلى مقاومة عملية صنع القرار التي تسهلها الخوارزميات البرمجية.

أندرو بيكس، نائب الأمين العام لنقابة "بروسبكت" أوضح أن "نتائج البحث تسلط الضوء على القلق العميق الذي يشعر به كثيرٌ من الموظفين حيال الأشكال الجديدة للمراقبة الرقمية الأكثر تدخلاً والتي يعتمدها أرباب العمل في كثير من الأحيان من دون التشاور مع القوى العاملة بشكل مناسب". ورأى أن "الاتجاه المتزايد المتمثل في ’تحويل البيانات‘ للعمال (قياس ورقمنة الجوانب المختلفة للنشاط والسلوك البشري في نقاط بيانات يمكن جمعها وتحليلها واستخدامها لأغراض مختلفة) إنما يشكل تهديداً بتكثيف متطلبات العمل، وهو ما يمكن أن يضر بالإنتاجية، وبالصحة، وبالروح المعنوية. وقد أعرب المشاركون في استطلاع المراقبة الذي أجريناه، عن "شعورهم بأنهم آلة عمل بدلاً من أفراد‘، وعن مخاوفهم بأنهم يخضعون للمراقبة المستمرة بسبب انعدام الثقة بهم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الازعاج الكبير الذي تتسبب به يقدم حجة قوية في أن استخدام التكنولوجيا لمراقبة الإنتاجية يمكن أن يكون له إلى حد ما، تأثيرٌ سلبي على الإنتاجية نفسها. وفي هذا الإطار، سلط هنري ألبريشت، الرئيس التنفيذي لشركة "لايميد" Limeade - وهي شركة برمجيات متخصصة في برامج رفاهية الموظفين - الضوء على الدور المحوري للثقة في هذا السياق. وقال في حديثه مع "جمعية إدارة الموارد البشرية" Society for Human Resource Management: "إن الأمر كله يعتمد على الثقة. فإذا لم يشعر الموظفون بأنهم موضع تقدير، تتراجع مشاركتهم في العمل. كما أن استخدام الأدوات التي تجعل الأفراد يشعرون وكأنهم عرضةً بشكل دائمٍ للتدقيق، إنما يقوض الثقة، ما قد يضر في نهاية المطاف بشركتكم".

وتتفق الدكتورة بروير مع هذا الرأي، مشيرةً إلى أن الموظفين عادةً ما يتفاعلون بشكلٍ سلبي مع تقنيات المراقبة، إلى حد أن الكثير منهم يستثمرون إبداعاتهم وجهودهم في التحايل على هذه الأنظمة. وتوضح ذلك بالقول: "يسعى الأفراد إلى الاستقلالية، والحصول على حقهم في الاختيار، والتحكم بشؤونهم، والثقة، والاحترام. لكن الرسالة التي تبعث بها تكنولوجيا المراقبة هي أن الشركة تشك بالموظفين وهناك حاجة للتحقق من عملهم، ما ينعكس سلباً على اندماجهم في العمل ومقدار الحافز للقيام به". وأضافت أنه نتيجة لذلك "قد يحاول الأشخاص التلاعب بالنظام أو قد يبذلون الحد الأدنى من الجهد فقط. إن أحد العوامل الحاسمة في العلاقات الإنسانية - بما في ذلك علاقتنا بالعمل - هو المعاملة بالمثل، إذ يميل الناس إلى الرد بالمثل بناءً على ما يتلقونه. وبالتالي، عندما يشعرون بانعدام الثقة أو الاحترام، فإنهم يصبحون أقل ميلاً إلى بذل أقصى جهدهم، وأكثر ميلاً إلى البحث عن ثقافة أكثر إرضاءً لهم في مكانٍ آخر، ما قد يدفع بهم إلى مغادرة المؤسسة".

لكن حتى عندما لا تكون التكنولوجيا مخصصة ظاهرياً لمراقبة الإنتاجية، فمن الطبيعي أن تساور الموظفين الشكوك ما لم يتم توضيح الأمر لهم بصراحة. من هنا تبقى الشفافية ضرورية. أما بالنسبة إلى أجهزة الاستشعار المكتبية المذكورة آنفاً، فتتمثل وظيفتها الأساسية في تعزيز كفاءة المساحة المكتبية من خلال مراقبة استخدامها، وتمكين الموظفين من تحديد المكاتب المتاحة على الفور في الوقت الفعلي.

وبعدما قام بنك "باركليز" Barclays Plc الاستثماري في لندن، بتركيب صناديق المراقبة المعززة بتقنية "أوكوب آي" OccupEye أسفل المكاتب في عام 2017، "انهالت الأسئلة" على المدراء عندما اكتشف الموظفون وجودها، وفقاً لـ "بلومبيرغ". إضافة إلى ذلك، أعرب موظفون مجهولون عن مخاوفهم لوكالة الأنباء، من أن الأجهزة تتتبع مدة غيابهم عن مكاتبهم، ويشعرون بقلق في شأن الفترة التي يأخذونها مثلاً لقضاء حاجتهم. ورداً على ذلك، أوضح "باركليز" في بيان له أن "أجهزة الاستشعار لم تكن تراقب الأفراد أو إنتاجيتهم، بل كانت تقيم استخدام المساحات المكتبية". لكن هذا لم يمنع الموظفين من خلع أجهزة الاستشعار والتخلص منها، وفقاً لبراين كروب رئيس الأبحاث في قسم الموارد البشرية لمؤسسة "غارتنر".

إلا أنه إذا كانت الشركات تهدف حقاً إلى تعزيز الأداء وزيادة الإنتاجية، فهناك أساليب أكثر فعالية لتحقيق هذه الأهداف. وقد دعا البروفيسور السير كاري كوبر عالم النفس التنظيمي البارز في المملكة المتحدة الشركات إلى إعطاء الأولوية لقياس رفاهية الموظفين كوسيلة لتعزيز الإنتاجية. وشدد في تقرير صدر في عام 2022 على أن "وضع الصحة والرفاهية في صميم استراتيجية العمل، ليس أمراً منطقياً فحسب، بل له فائدة كذلك - فهو يزيد الإنتاجية، ويعزز القدرة على الاحتفاظ بالعاملين، ويحد من مسألة الحضور غير الفاعل، أو ما يُعرف بمجرد إثبات الوجود".

وفي الوقت نفسه، ترى الدكتورة بروير أن الطريقة المثلى لتعزيز الأداء تتمثل في تقديم عمل هادف للموظفين يتناسب مع اهتماماتهم - قدر الإمكان. وتنصح بـ "ضرورة إيجاد سبل للتعلم وإتاحة الفرص للعاملين لتعزيز العلاقات مع القادة وأعضاء فريق العمل. وبالتأكيد، تُعد تنمية ثقافة تنظيمية قوية، تتميز بأهداف واضحة وتركز على كل من الأفراد والأداء، خطوةً بالغة الأهمية. ومن شأن جميع هذه العوامل أن تسهم في تعزيز أداء الموظفين".

وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يؤدي إعطاء الأولوية للمعاملة الإنسانية للموظفين على التعاطي معهم كآلات، إلى نتائج مثالية. وذلك إلى أن يأتي العصر المحتمل لأن يحل فيه "الذكاء الاصطناعي" مكاننا جميعاً.