كنت مع عدد من الفقهاء القانونيين الغربيين في رحاب الجامعة الأورومتوسطية بفاس، دعوناهم لإعطاء محاضرات لطلبتنا، من أمثال فيليب بلاشير، وهو قاضٍ في المحكمة العليا بموناكو، وكزافييه لوكا، وهو أستاذ التعليم العالي بجامعة السوربون. في ساعة متأخرة من يوم الأربعاء ونحن نتابع ما يجري في رحاب الجمعية الوطنية الفرنسية من إمكانية سحب الثقة عن حكومة ميشال بارنييه؛ كانت كل التوجهات والتكهنات تذهب إلى أن دقائق ميشال بارنييه باتت محسومة، وهذا ما وقع بالضبط في تمام الساعة الثامنة وعشرين دقيقة ليلاً بتوقيت غرينتش.
فقد أقر نواب الجمعية الوطنية الفرنسية حجب الثقة عن الحكومة بعد ثلاثة أشهر فقط على توليها مهامها، واتحد نواب من أقصى اليمين واليسار لدعم اقتراح حجب الثقة عن رئيس الوزراء وحكومته، بأغلبية 331 صوتاً من أصل 574؛ أي عدد أكبر بكثير من الغالبية المطلوبة. وبهذا تكون هذه الحكومة أول حكومة فرنسية تُجبر على الخروج من خلال تصويت بحجب الثقة منذ عام 1962.
كان تساؤلي مع الزملاء هو أن ميشال بارنييه هو رجل دولة بامتياز، ويتمتع بخبرة تمتد لأربعين عاماً في السياسة الفرنسية والأوروبية، وشغل مناصب وزارية مختلفة في فرنسا، بما في ذلك مناصب وزراء الخارجية والزراعة والبيئة، وكذلك شغل مرتين منصب مفوض أوروبي ومستشار لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، وهو رجل المفاوضات الصعبة والشاقة، ونتذكر النجاح الكبير الذي حققه عندما كان مكلفاً بقيادة فريق التفاوض التابع للاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة في المفوضية الأوروبية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 عندما صوتت المملكة المتحدة لصالح خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهو الدور الذي منحه ثقة وإعجاب كل الأوروبيين... فلماذا فشل وطنياً في ما نجح فيه على الصعيد القاري؟
أظن أن الدولة الفرنسية تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة، وبين الأحزاب السياسية والدولة، وهناك صراع عقيم داخل المجال السياسي العام حيث إن الفاعلين فيه لم يعودوا قادرين على خلق قواعد الأغلبية الضرورية لتنفس الديمقراطية التي أُدخلت إلى قاعة العمليات الجراحية، ولا يُعرف لحد الساعة مآلها. ونتذكر أحد الأعداد لمجلة «لو بوان» الفرنسية حيث عنونت: «كيف تولد الثورات؟ هل نحن في عام 1789؟». وكما هو معلوم، فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية؛ انهار خلالها النظام الملكي المطلق الذي كان قد حكم فرنسا لقرون عدة في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية، وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية، إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عُرف باسم «مبادئ التنوير»؛ وهي المساواة في الحقوق، والمواطنة، والحرية، ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية. الدولة في تلك الفترة كاليوم عاشت مرحلة من انعدام الثقة، وفي تلك المرحلة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم... وحسب العديد من الخبراء، فكل الفاعلين السياسيين ليسوا في المسار السياسي الصحيح، وهم يقضون كل وقتهم في الدفاع الظرفي عن النفس، أو في التفكير في كيفية جعل الآخر يعيش أوقاتاً سياسية مريرة.
عاقب اليسار واليمين المتطرف بارنييه عقاباً عسيراً على لجوئه إلى استخدام صلاحيات دستورية خاصة لتمرير جزء من موازنة لم تحظَ بالتأييد، والتي سعت إلى توفير 60 مليار يورو لتقليص العجز. بارنييه هو رجل دولة، ورجل يفهم في دقائق المال والاقتصاد؛ أراد أن يترك لأبناء الفرنسيين وأبناء أبنائهم موازنة متوازنة حتى لا يدخلهم في غيابات الجُب، ويجعلهم يؤدون ذلك ضريبياً، ولكن السياسيين الفرنسيين رفضوا، ورفضوا النظر إلى المستقبل.
إنه بحر السياسة العجيب الذي يمكن أن ينقلب طوفاناً إذا انعدمت الثقة عند الفاعلين فيه، وإذا تبخرت العقلانية والواقعية. وقد تنبّه لذلك العالم الألماني ماكس فيبر (1864-1920) في محاضرتين تاريخيتين ألقاهما سنوات قبل موته: «العلم بوصفه حرفة» و«السياسة بوصفها حرفة»؛ فقد ألقاهما في شهور الاضطراب والثورات التي تلت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وسقوط القيصرية، وشيوع الفوضى والصراع على مستقبل المجتمع والدولة... ولذلك فالسوسيولوجي ماكس فيبر، إصلاحاً لهذا الوضع واستشرافاً للمستقبل القريب والبعيد، أخبر بأن السياسي عليه أن يتمتع بثلاث صفات محددة، وإلا فالفساد السياسي سيكون هو القاعدة في حلبة الصراع السياسي: الشغف والشعور بالمسؤولية وبُعد النظر. الشغف موجود، ولكن الشعور بالمسؤولية وبُعد النظر مفقودان.