الشهية الكولونيالية

منذ 13 ساعة 17

يطالب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بضم كندا، حتى قبل أن يتسلم منصبه الرئاسي. وهي دولة محترمة ومنتجة وذات سيادة، تفوق مساحتها حجم الولايات المتحدة الأميركية. ويتقصد أن ينادي رئيس وزرائها تكراراً بـ«الحاكم»، ويعدها مجرد ولاية أميركية. يبدو الأمر مزاحاً، لكن إصرار ترمب على رفع الضرائب على الواردات الكندية إلى 25 في المائة، بينما غالبية ما تنتجه يُصرّف في أميركا، قرار مقصود بهدف بثّ الاضطراب في الدولة الجارة. وهو ما تسبب في استقالة وزيرة المالية احتجاجاً على موقف رئيس الوزراء ترودو المائع من سياسة ترمب «القومية والعدوانية» التي تُشكل «تحدياً خطيراً» لبلادها.

والقصة في أولها. وأسوأ من ذلك عَدُّ الرئيس الأميركي الجديد، شراء جزيرة غرينلاند التي هي جزء من مملكة الدنمارك المستقلة «ضرورة مطلقة» لأميركا، و«قضية استراتيجية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين».

وصبّ إيلون ماسك الزيت على النار، حين طالب سفير بلاده لدى الدنمارك رجل الأعمال كين هويري بالعمل على إنجاز المهمة. ترمب منذ ولايته الأولى يسعى إلى شراء الجزيرة التي مساحتها أكبر 50 مرة من الدنمارك نفسها، أو مقايضتها ببورتوريكو، كأن مواطني الجزيرتين، سلع تخضع للتبادل. المهم أن في الجزيرة نفطاً وفيراً ومعادن وذهباً وياقوتاً. وربما هذا هو ما يقصده ترمب بتأمين «الأمن القومي والحرية».

وتدافع وسائل إعلام أميركية عن أحقية الولايات المتحدة باسترجاع قناة بنما التي كانت قد أعادتها لأصحابها في عهد جيمي كارتر. هذه أيضاً يريد ترمب السيطرة عليها، كأنما هي ملك سائب، بحجة أن الرسوم التي تفرض على أميركا عند مرور بضائعها جائرة، وأن 22 ألف عامل أميركي دفعوا دماءهم لحفر القناة. وهو كلام ملفق، فقد سخّر الأميركيون اللاتينيين في عملية الحفر، وقضى الآلاف من فرط العمل وانتشار الأوبئة، بعد أن جاءوا بهم من الكاريبي، وجامايكا وباربادوس، وكوبا. أميركا آخر من يحق لها أن تفرض شروطاً في مشروع استعبدت الشعوب لإقامته من أجل تجارتها، وتملكته لعقود من دون وجه حق. بنما كانت جزءاً من كولومبيا، وحرّضت أميركا سكانها على الانفصال، كي تنفذ حفر القناة، بشروطها الاستقوائية التي لم تقبلها كولومبيا. هكذا ولدت بنما عام 1903 وشقت القناة، وبقيت مع الأراضي على جانبيها تحت السيطرة الأميركية. لكن الأهالي عادوا وانتفضوا على الشروط المهينة، وحرروا قناتهم عام 1977. ما يريده ترمب هو إعادة بنما إلى ما قبل زمن السيادة على شريانها الحيوي، لتوفير الرسوم، والوقوف سداً أمام مرور السفن الصينية التي تشكل أقل من ربع حركة السفن، والتي هي في غالبيتها أميركية.

الحرب الاستعمارية تستعر، وفصولها تمتد إلى أفريقيا، حيث تحاول أميركا إقفال الطرق في وجه كل من روسيا والصين، بالاستفراد بممر آخر هو «لوبيتو»، وهو سكة حديد تجتاز القارة من شرقها إلى غربها. فالمنطقة غنية بالنفط والمعادن، وهي استراتيجية وحساسة.

تشمر أميركا عن ساعديها، وتدخل حلبة الصراع بشراسة، فهي إن لم تتمكن من الاستحواذ على الأرض، فإنها تخضع البلاد لاتفاقيات مكبّلة. وهو ما سنراه في كندا وبنما وغرينلاند، وأماكن أخرى كثيرة.

الاستعمار يعود بقوة. وهو في الأصل لم ينته بل لبس طاقية الإخفاء. فالدول الاستعمارية التي اضطرت للانسحاب من مستعمراتها بعد الحرب العالمية الثانية، مثل بريطانيا وفرنسا لأنها أنهكت، وسقط لها عشرات ملايين القتلى، ابتكرت مؤسسات دولية وهيئات، وأقنية، تنظم العلاقات الدولية، وتبقى سلطتها قائمة على الشعوب التي يفترض أنها استقلت.

أما وأن هذه الهيئات، ومنها الأمم المتحدة، بدأت تتفكك، فإن الدول الراغبة في إعادة السطوة المباشرة على الشعوب، تشعر بأنها في حلّ مما يقيدها. انسحب ترمب سابقاً من اتفاقية المناخ، ويخطط للانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ويلقن قضاة المحكمة الجنائية الدولية دروساً لأنهم تجرأوا وأصدروا حكماً على حليفه نتنياهو ووزير حربه السابق غالانت.

ما فعلته إسرائيل بالشراكة التامة مع أميركا في غزة، من نبذ ورفض، لكل القرارات الدولية، ونداءات الهيئات الإنسانية، مقدمة لما سنراه في السنوات التالية، من تقويض إضافي لبنية النظام الدولي.

فإذا كان ترمب يرى أميركا صغيرة، ويريد أن يزيد من مساحتها، فأي شيء سيسمح به لإسرائيل التي قال سابقاً إنها شديدة الصغر. هل سيسمح لروسيا بعد أن ضمت القرم، أن تأخذ دونيتسك ولوغانسك، وفوقهما خيرسون وزاباروجيا؟ وفق هذا المنطق، يحق لإسرائيل أن تأكل ما تستطيعه من سوريا، وما تقدر عليه من لبنان، وأن تضم الضفة الغربية وغزة. وقد تتكرم برقعة أرض رمزية تدار ذاتياً، من دون لا دولة، ولا تقرير مصير.

حين تقرر أقوى دولة في العالم أن تنسف القانون الدولي، وتطيح بمبدأ السيادة والحقوق، وتبيح لحلفائها ولنفسها تجاوز كل الحدود، فإنها تمهد الطريق حكماً، لإمبراطوريات صاعدة، كي تقضم هي الأخرى، حيث تستطيع، وندخل في فوضى وحروب لا نهاية لها.

ترمب يريد «نوبل للسلام»، ووعد بوقف الحروب، لكن شهيته الكولونيالية العارمة، هي وصفة مثالية لتوليد الصراعات.